أين نحن من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم

د. بن زموري محمد * أين نحن من رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم -؟ سؤال لا يقف عند حدود التأمل النظري، بل هو امتحان عملي لحياتنا اليومية ومقياس لصدق انتمائنا لأمة محمد عليه الصلاة والسلام. لقد كان الرسول الأكرم أعظم شخصية عرفها التاريخ، شخصية جمعت بين الإيمان العميق والإنسانية الرحيمة والحكمة البالغة والقيادة …

سبتمبر 17, 2025 - 15:00
 0
أين نحن من رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم

د. بن زموري محمد *

أين نحن من رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم -؟ سؤال لا يقف عند حدود التأمل النظري، بل هو امتحان عملي لحياتنا اليومية ومقياس لصدق انتمائنا لأمة محمد عليه الصلاة والسلام. لقد كان الرسول الأكرم أعظم شخصية عرفها التاريخ، شخصية جمعت بين الإيمان العميق والإنسانية الرحيمة والحكمة البالغة والقيادة الفذة. لم يكن ملكاً متجبراً ولا زعيماً مترفاً، بل كان عبداً لله يمشي على الأرض بتواضع، يأكل مع الفقراء، ويجلس مع الضعفاء، ويحنو على الأطفال، ويكرم النساء، ويحسن إلى الجار، ويحمل همّ أمته حتى آخر لحظة من حياته. يقول الله تعالى فيه: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾، فكانت حياته تجسيداً لهذه الرحمة التي لم تقتصر على المسلمين وحدهم بل شملت الإنسانية جمعاء، حتى أعداءه الذين آذوه كانوا يجدون عنده ملاذ العفو والسماحة.
لقد أثّر النبي صلى الله عليه وسلم في العالمين تأثيراً لا يمحى. أقام مجتمعاً جديداً من رحم الجاهلية، فحوّل قومًا متنازعين قبليين إلى أمة متماسكة تنبض بالإيمان والعدل، وأطلق حضارة ازدهرت في ميادين العلم والمعرفة والأخلاق والسياسة والاقتصاد، حضارة حملت إلى البشرية نور التوحيد والعقل والتزكية. إن ما حققه في سنوات قليلة يفوق ما لم يحققه غيره في قرون طويلة، ولذلك اعترف المنصفون من غير المسلمين أن محمداً صلى الله عليه وسلم أعظم من غيّر وجه التاريخ. لم تكن عظمته في السلطان أو المال، وإنما في القدرة على غرس الإيمان في القلوب، وإحياء الضمائر، وصناعة الإنسان الجديد الذي يعبد الله وحده ويخدم البشرية كلها.
لكننا إذا التفتنا إلى واقعنا اليوم وجدنا أنفسنا بعيدين عن هذه القمة السامقة. نرفع اسم الرسول في أذاننا وصلواتنا، ونكثر من الصلاة عليه باللسان، لكننا نغفل عن جوهر رسالته وسلوكه. نقرأ سيرته إعجاباً وتقديراً، لكن لا نترجمها إلى واقع عملي في حياتنا. نحتفل بمولده الشريف في مظاهر شكلية، بينما نغفل عن الاقتداء بعدله ورحمته وصدقه. صرنا أمة تتغنى بالماضي المجيد أكثر مما تعمل لبناء الحاضر والمستقبل. تفكك اجتماعي، ضعف أخلاقي، فساد في التعاملات، نزاعات داخلية، وغياب للقدوة العملية، كل هذا يطرح السؤال المؤلم: كيف ابتعدنا إلى هذا الحد عن هدي الرسول الذي جعل من أمة ضعيفة خير أمة أخرجت للناس؟
الجواب يكمن في أننا جعلنا العلاقة برسول الله صلى الله عليه وسلم علاقة عاطفية جامدة وليست منهجية عملية. نحبّه بقلوبنا لكننا لا نسير على خطاه بأفعالنا. والسبيل إلى الارتقاء والعودة إلى شخصيته العظيمة هو أن نجعل سيرته منهاج حياة لا مجرد قصص تروى. فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس شخصية تاريخية نقرأ عنها لنمضي، بل هو قدوة خالدة أُمرنا أن نتبعه: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً﴾.
فأول خطوة عملية هي أن نعرف سيرته معرفة واعية شاملة. لا يكفي أن نحفظ مواقف متفرقة، بل يجب أن ندرس كيف كان يتعامل مع أهله وأصحابه، كيف كان يحكم بين الناس، كيف كان يواجه الأزمات، كيف كان يربي الأجيال. إن سيرته ليست تاريخاً من الماضي، بل مدرسة لكل الأزمنة، تعلّمنا كيف نكون صادقين في القول، رحماء في التعامل، أقوياء في الموقف، عادلين في الحكم.
ثم تأتي الخطوة الثانية وهي الاقتداء العملي. أن نجعل من أخلاقه منهجاً في حياتنا: في الصدق والأمانة والوفاء بالوعد، في العفو عند المقدرة، في الحلم والصبر، في خدمة الآخرين، في الرحمة بالحيوان والنبات والبيئة من حولنا. لقد كان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على هذه المعاني حتى صارت جزءاً من كيانهم، ففتحوا بها القلوب قبل البلدان. إن المجتمع الذي يتخلق بأخلاق الرسول هو المجتمع القادر على النهوض والقيادة، أما المجتمع الذي يرفع اسمه دون أن يطبق تعاليمه فلن يبرح مكانه.
ولا بد أن نحيي سننه في حياتنا اليومية، لا باعتبارها طقوساً جامدة وإنما روحاً متجددة. حين نبتسم في وجه أخينا المسلم فإننا نطبق سنته. حين نعين المحتاج ونكرم اليتيم ونرحم الفقير، فإننا نحيي منهجه. حين نسعى للعلم وننشر المعرفة فإننا نسير على خطاه. حين نعدل بين أبنائنا، ونصدق في تجارتنا، ونتقن أعمالنا، فإننا نثبت للعالم أننا أمة محمد بحق.
والمفتاح في كل ذلك هو إصلاح النفس، لأن الأمة لا تصلح إلا بصلاح أفرادها. قال الله تعالى: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾. فلنبدأ من ذواتنا: لننقّ قلوبنا من الغل والحقد، ولنطهر ألسنتنا من الكذب والغيبة، ولننق أعمالنا من الخيانة والتقصير. فإذا صلحت النفس استقامت الأسرة، وإذا استقامت الأسرة صلح المجتمع، وإذا صلح المجتمع نهضت الأمة من جديد.
إنّ السؤال “أين نحن من رسول الله؟” ليس ترفاً فكرياً ولا موضوعاً للخطابة فحسب، بل هو قضية حياة أو موت للأمة. إنّ مستقبلنا وكرامتنا ونهضتنا مرتبطة بمدى قربنا من شخصيته وهديه. ولن يشهد العالم عودة حقيقية للأمة الإسلامية إلا إذا جسدت صورة النبي في أخلاقها وسلوكها وحضارتها. نحن بحاجة إلى أن يرى الناس فينا الرحمة التي جسدها، والعدل الذي أقامه، والصدق الذي سار به، والعلم الذي دعا إليه. عندها فقط يمكننا أن نكون خير أمة أخرجت للناس، ونحمل للعالم رسالة الإسلام كما أرادها الله: رسالة رحمة ونور وعدل.
فلتكن رسالتنا العملية أن نعيد رسم صورة النبي صلى الله عليه وسلم في حياتنا، لا بالكلمات والشعارات، بل بالأفعال والسلوك. عندها سيتجدد النور الذي أشرق قبل أربعة عشر قرناً، وسنعيد للعالم الثقة بأن أمة محمد ما زالت تحمل مشعل الهداية للعالمين.