السلم في راهن وعي الجزائري

ليس لمفهوم السلم في نطاق الصراع الدولي اليوم، حدودا ومستويات متوقفة، فكل شيء سائل وكل شيء منفتح على كل شيء وعلى كل الاحتمالات، نظرا للتداخل الكبير الذي بات يطبع موضوعاته (الصراع الدولي) بحيث تشمل داخل كما خارج الدول، أحيانا بمراحل وأحيانا في الوقت ذاته، كما وتشمل فواعل السياسة الجديدة والقديمة معا، وهو ما يجعل الدولة …

مايو 25, 2025 - 08:20
 0
السلم في راهن وعي الجزائري

ليس لمفهوم السلم في نطاق الصراع الدولي اليوم، حدودا ومستويات متوقفة، فكل شيء سائل وكل شيء منفتح على كل شيء وعلى كل الاحتمالات، نظرا للتداخل الكبير الذي بات يطبع موضوعاته (الصراع الدولي) بحيث تشمل داخل كما خارج الدول، أحيانا بمراحل وأحيانا في الوقت ذاته، كما وتشمل فواعل السياسة الجديدة والقديمة معا، وهو ما يجعل الدولة اليوم وظيفيا في أزمة مفهوم لا تقل عنها ضراوة في الممارسة وكذا في الوعي الذي لا يزال لدى شعوب بعض الأمم، لا سيما منها المتخلفة، لا تكاد تبرح فيه الأبوية السياسية والحقيقة المتجسدة فيها، هذا المخاض التاريخي الذي يعكس مدى افلاس الانسان السياسي، جعل من السؤال الوجود السياسي للشعوب والافراد يتفتق على أسئلة فرعية لكنها بأهمية مركزية، حول قضايا جمة، أهمها مدى القدرة على استباق الازمات واحتوائها قبل أن يقع ضحيتها الكل، الدولة، الوطن والأفراد.

أسئلة السياسة المعقدة

وربما كان نصيب الجزائريين اليوم، في ظل ما يروج ويموج فيه محيطها الحدودي من حركية نارية، من أسئلة السياسة المعقدة تلك، هو ما طبيعة السلم الذي بوسعه أن يتحقق لهم ويحقق بذلك الرفاهية والازدهار؟ ما يقتضي بالضرورة طرح سؤال ذي صلة، ما هو مفهوم السلم والاستقرار كهدف اجتماعي ومجتمعي للجزائريين يتجاوز الدعاية الانتخابية والتوظيف السياسوي؟
في مداخلة له عبر قناة المشهد، أرجع أستاذ العلوم السياسية الجزائري محمد سي بشير، الغياب السلبي السابق للجزائر على مستوى الحراك الذي شهدته منطقة الساحل وباقي الحدود المأزومة مع الجزائر إلى “حقبة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، الذي بعد أن احتكر عديد السلطات مرض وبمرضه شلت عديد المؤسسات السياسية وخصوصا منها السيادية” الأمر الذي بات يُظهر أهمية البلد ودوره بالمنطقة أقل من قدراته وحجمه وبذلك فهم الجيران وحلفائهم القدامى منهم والجدد، الأمر خطاً، بأن الساحة خلت لهم ليمارسوا ما بدا لهم حتى وإن ذهبوا في ذلك إلى ما قد يمس بمصالح الجزائر‪!‬‬
يحلينا تحليل الدكتور سي بشير إلى معضلة مفهوم الاستقرار والسلم كهدفين رئيسين في وعي المجتمع الجزائري لما بعد العشرية السوداء، العشرية الدموية التي محا الصراع فيها بين أبناء الوطن الوحد، كل رغبة أو إرادة في التغيير والنظر إلى أفق آخر، استرابة ورهبة مما مضلا من تجربة الموت، أين صار الجميع وقتها ينشد مجرد العودة إلى السلم الاجتماعي والاستقرار القديم ولو على حساب التطور والانتقال في الحياة السياسية والاقتصادية.

مفهوم السلم الاستراتيجي

وبذلك استعصى التحول الاجتماعي إلى مفهوم السلم الاستراتيجي الذي يقفز عن الإرادة التوظيفية الدعائية السياسوية التي سادت وأريد لها الرسوخ في وعي المجتمع الجزائري، وعبرها يحقق الأشخاص والجماعات مبتغاهم، ذلك لأن السلم الاستراتيجي يشتغل فيه العقل السياسي الوطني على نطاقين، أولهما عابر للزمن متحرر من قيوده وحدوده، وهو بذلك يجري مع الزمن مهما تبدلت الدول وتغيرت السلط وتجددت الشعوب، وثانيهما أن السلم الاستراتيجي يتجاوز في حساباته الداخل ليتمدد إلى خارج الحدود، لا سيما في وقتنا هذا حيث صراعات الخارج أضحت أكثر تأثيرا في الداخل القطري من صراعات الداخل.
ففي كل حقبة من أحقاب ما تنعت في الجزائر بـ”البحبوحة المالية” التي توفرها عادة طفرات السوق النفطية العالمية للاقتصاد الجزائري ذي الخاصية الريعية غير الإنتاجية، دأباَ يتم اللجوء إلى التعامل مع السلم بطرق رعوية لا تاريخية، إذ يتم غمر المجتمع بمطالبه ورغائبه بالمال، فيتعزز مفهوم السلم (الاجتماعي) بِبُعده الظرفي المسكِّن لدى الناس، ويتلاش بذلك السلم في بعده الاستراتيجي العميق والحقيق.
بهكذا تعامل مع السلم مفهوما ووظيفة، نكون بإزاء حالة من تأميم مفاهيم لها علاقة بالواقع غير المادي للإنسان المواطن، يتم من خلال الاستحواذ عليها في الخطاب السياسي والتاريخي، توجيه المجتمع معرفيا وسياسيا وفق إرادة أصحابها، كنتيجة للشل الذي يصيب به هذا الاستحواذ وعي الجميع.

الوعي الجمعي حول مفهوم السلم

والأكثر والأطم من كون الوعي الجمعي حول مفهوم السلم ظل محل شلل بسبب التوجيه الفوقي القسري له، هو أن واقع السلم هذا بات لا تاريخيا، أي أن القلق الجيوبوليتيكي لم يعد يأبه أو يحسب لروابط الدم والثقافة والانتماء الأممي الواحد، وذلك بفعل القوة المندفعة في سياق الصراع حول مناطق النفوذ إلى الحدود، وبالتالي أضحت الدول ذات الانتماء المشترك مستعدة في سعييها للنجاة وضمان بقائها، إلى توظيف كل الوسائل بما في ذلك تلك التي قد تنال من أمن ومصالح شقيقتها، وشعارها في ذلك “نفسي، نفسي” والأمر مُشاهد بشكل جلي ولا بلا ضبابية في ما هو حاصل في حدود الجزائر الجنوبية والشرقية، حيث تتقلب مواقف الدول وفق قوة الضغط التي تمارسها أطراف الصراع الدولي، فسرعان ما تلجأ نظمها في المساء إلى نقض عهودها واتفاقياتها التي كانت قد أبرمتها في الصباح، كما كان الحال مع الماليين فيما عرف باتفاقية الجزائر، أو اتفاقات التعاون التي وقعت عليها النيجر مع الجزائرية، وهذا بتأثير وتوجيه وضغط من قوى الصراع وأذنابها خصوصا الامارات التي بات واضحا عملها ومسعاه الأخير للمس بسلامة واستقرار الحدود الجنوبية للجزائر.

أزمة الساحل

إذن تبدو أزمة الساحل والحدودين الجنوبيين في شرق وغرب الجزائر، فرصة لمعاودة طرح أو لنقل تحرير مفهوم الأمن الاستراتيجي للبلد يجُبُّ نهائيا المفاهيم السابقة التي تكلست في الوعي المجتمعي ببعدها المحلي الصرف، تُوظَّف في المناكفات السياسة والمناسبات الانتخابية، وعي ظل قائما كما أشرنا على جروح المجتمع السياسية والأمنية السابقة، ومن هنا تبدأ التعبئة الحقيقية، أي ترك العقل الوطني يمتد في جهد استكشافه حقول أوسع في معاني الوجود الوطني، من خلال إعادة تفسير وتأويل وتمديد دلالات ألفاظ وعبارات ومصطلحات ومفاهيم عديدة، من مثل مسألة السلم والاستقرار والازدهار والرفاهية، وعدم الإبقاء عليها مؤممة معممة (التعميم) تعيق مسارات التغيير والتطور اللذين ينشدهما المجتمع.
بشير عمري