رؤى و أفكار.. وقفة مع التكامل التربوي في الإسلام
بقلم: الأستاذ حشاني زغيدي يمتاز منهاج التربية في الإسلام بشموله وتكامله، إذ لا يُعنى بجانب دون آخر، ولا يُقدّم بعدًا على حساب غيره. بل يربط بين سمو الغايات ووضوح الوسائل، فيغرس القيم في الفرد، ويرعاها في الأسرة، ويؤسس عليها بناء المجتمع والمؤسسات. إنه منهاج يعالج الخلل التربوي من الجذور، ويعيد للإنسان توازنه الروحي …

بقلم: الأستاذ حشاني زغيدي
يمتاز منهاج التربية في الإسلام بشموله وتكامله، إذ لا يُعنى بجانب دون آخر، ولا يُقدّم بعدًا على حساب غيره. بل يربط بين سمو الغايات ووضوح الوسائل، فيغرس القيم في الفرد، ويرعاها في الأسرة، ويؤسس عليها بناء المجتمع والمؤسسات.
إنه منهاج يعالج الخلل التربوي من الجذور، ويعيد للإنسان توازنه الروحي والمادي، من خلال تصور متكامل للتكوين الإنساني، ينسجم مع الفطرة، ويُحيي الطاقات المعطّلة، ويصنع نموذجًا بشريًا يوازن بين واجباته وحقوقه، وبين دنياه وآخرته.
أولًا: أسس التكامل التربوي
من أبرز أسس التربية الإسلامية ربطها القيم بالسلوك، والمبدأ بالفعل. فهي تربية تُعنى بإعداد الإنسان الصالح لا في ذاته فقط، بل بوصفه فاعلًا في مجتمعه، مسهمًا في إعمار الأرض.
”روى عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قوله: علِّموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل”، وهو توجيه يُجسّد شمولية التربية التي تشمل البدن، والروح، والعقل معًا.
· الأسرة رافد أساسي للتكوين
الأسرة في الإسلام ليست مجرد مؤسسة اجتماعية، بل هي حاضنة تربوية أولى، ترسم معالم شخصية الفرد وتغرس فيه القيم منذ الصغر.
كما في بيت فاطمة الزهراء – رضي الله عنها – الذي قدّم نموذجًا في التربية المتكاملة، فجمعت بين العبادة والعلم، وبين الإيمان والعمل، فكانت صورة ناصعة للمرأة المسلمة المتوازنة.
ثانيًا: التوازن بين الروح والمادة
التربية الإسلامية تُوازن بين مطالب الروح والجسد، فلا تنحاز إلى الزهد القاتل ولا إلى المادية المفرطة، بل ترسم طريق الوسطية
فعبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه – كان تاجرًا غنيًا، لكن ماله لم يمنعه من العبادة والإنفاق. جسَّد هذه المعادلة قول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}. [القصص: 77]
· نموذج معاصر
نرى هذا التوازن في تجارب معاصرة، مثل التعليم التوازني في ماليزيا، الذي يدمج بين العلوم الحديثة والتربية الإيمانية، فجعلها من أقوى النظم التعليمية عالميًا بحسب تقرير اليونسكو (2023).
· حاجات الإنسان المتوازنة
الإسلام لا يُغفل حاجات النفس إلى الترويح، ولا الجسد إلى الغذاء، ولا الروح إلى السكينة. بل يدعو إلى إعطاء كل جانب حقه، ضمن دائرة المباح، في توازن يصنع الاستقرار النفسي والاجتماعي، وهو ما عجزت عن تحقيقه كثير من المنظومات التربوية المادية المعاصرة.
ثالثًا: الإشكاليات المعاصرة وسبل العلاج
إن من أعظم اختلالات التربية اليوم هو الارتهان لنماذج تربوية مستوردة لا تراعي هوية الأمة ولا قيمها.
وقد نبَّه ابن خلدون إلى خطر تقليد مناهج الأمم الأخرى دون تمحيص، معتبرًا أن انهيار الأمم يبدأ من فقدان هويتها التربوية.
ضياع القدوة
حين تفتقد المجتمعات للنماذج التربوية السليمة، وتقع في فخ الاقتداء بمن لا يحملون همّ القيم، ينهار البناء التربوي. والأسوأ من ذلك حين تُحتقر القيم الأصيلة، وتُستورد قيم دخيلة لا تُناسب السياق الثقافي ولا العمق الحضاري للأمة.
غياب استثمار الطاقات
تملك أمتنا طاقات بشرية هائلة في شتى المجالات، لكن هذه الطاقات كثيرًا ما تُهمل أو تُهاجر أو تُثبَّط، في حين أن أممًا أخرى أحسنت استثمار مواردها البشرية، فصنعت بها نهضات شامخة.
وفي السياق استثمار المبادرات ، نبرز مشروع “روابط الرحِم” في ماليزيا، الذي اعتمد على دور المساجد والمجالس العائلية في تعزيز قيم التواصل والتفاهم داخل الأسرة، حيث تم تنظيم جلسات إرشادية أسبوعية للأزواج الجدد والمقبلين على الزواج. وقد ساهم المشروع في تقليص الخلافات الزوجية بنسبة 35% خلال أربع سنوات، بحسب بيانات وزارة التنمية الأسرية الماليزية لعام 2021.
الخاتمة
الإسلام قدّم للإنسانية أعظم نموذج تربوي عرفه التاريخ؛ نموذج يجمع بين الإيمان والعقل، بين العمل والنية، بين صلاح الفرد وازدهار المجتمع.
هذا المنهج ليس مجرد نظرية، بل هو مشروع حضاري أثبت نجاحه في الواقع؛ أنجب خالدًا في ساحة القتال، وابن الهيثم في المختبر، والغزالي في محراب الفكر.
ومتى عادت الأمة إلى هذا المنهج الأصيل، متى استثمرت طاقاتها على نور من الإيمان والعقل، فإنها قادرة – بإذن الله – على النهوض من جديد.