نحو بيئة بحثية مستدامة في تركيا

أ. يمينة عبدالي/ تحتل المشاريع البحثية الرائدة مكانة مركزية في تعزيز البحث العلمي والتعليم العالي في تركيا، حيث تعكس طموحات الدولة في تعزيز الابتكار وزيادة الإنتاج العلمي. ويعد “برنامج الدعم البحثي الوطني” من أهم المشاريع التي أُطلقت لتشجيع الجامعات ومراكز البحث على تطوير حلول مبتكرة لمشكلات اجتماعية واقتصادية متعددة. فهذا البرنامج يهدف إلى توفير المنح …

مايو 28, 2025 - 11:04
 0
نحو بيئة بحثية مستدامة في تركيا

أ. يمينة عبدالي/

تحتل المشاريع البحثية الرائدة مكانة مركزية في تعزيز البحث العلمي والتعليم العالي في تركيا، حيث تعكس طموحات الدولة في تعزيز الابتكار وزيادة الإنتاج العلمي. ويعد “برنامج الدعم البحثي الوطني” من أهم المشاريع التي أُطلقت لتشجيع الجامعات ومراكز البحث على تطوير حلول مبتكرة لمشكلات اجتماعية واقتصادية متعددة. فهذا البرنامج يهدف إلى توفير المنح والموارد اللازمة للمؤسسات الأكاديمية لتأسيس مشاريع تجريبية تتناول مواضيع مستقاة من أولويات وطنية، مثل التنمية المستدامة والتكنولوجيا الحيوية والطاقة المتجددة.
علاوة على ذلك، تسهم المشاريع البحثية في بناء شبكة من التعاون المثمر بين الأكاديميين والشركات القطاع الخاص، مما يعطي انطباعًا عن الشراكة بين العلم والاقتصاد. وقد ساعد التوجه الجديد نحو “التكنولوجيا الخضراء” وفي القضاء على العلاج التقليدي للمرونة الاقتصادية في الوطن على الفهم الأعمق لدور الأبحاث في تحقيق التنمية المستدامة. ويتضح من هذه الجهود أن المشاريع البحثية ليست فقط أدوات لتعزيز الابتكار، بل أيضًا وسائط لفهم التحديات المجتمع وتحفيز التغيير الإيجابي عبر المساهمة في تحليل النتائج وإعادة التفكير في الأساليب التقليدية. ولعلّ النتائج الإيجابية لهذه المشاريع لا تنعكس فقط في الإصدارات العلمية، بل تترجم إلى تحسن واضح في المشهد العلمي والتعليمي في تركيا، مما يدعم رؤية البلاد في أن تصبح مركزًا بحثيًا إقليميًا.
في ظل التحولات المتسارعة في العالم نحو اقتصاد المعرفة، تحتل تركيا موقعًا مميزًا في دعم البحث العلمي والتطوير التقني من خلال منظومة متكاملة تضم مؤسسات حكومية، أوقافا أهلية، وبرامج دعم أوروبية ودولية. تسعى هذه المنظومة إلى تمكين الباحثين، وتعزيز الابتكار، ورفع مستوى الجامعات ومراكز البحث التركية لتكون ضمن المصاف العالمية ومن أهم هذه المؤسسات:

  

المؤسسات الحكومية التركية:
حيث تعد محركاً أساسياً في تعزيز البحث العلمي ودعم التعليم العالي، إذ تلعب دوراً حيوياً في وضع السياسات واستراتيجيات التمويل التي تشكل البيئة البحثية. في هذا السياق، تأتي وزارة التعليم العالي كمؤسسة رئيسية، تتولى مسؤولية تطوير نظم التعليم العالي وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق الأهداف الوطنية. كما تسعى الوزارة من خلال برامجها إلى ضمان جودة التعليم والبحث العلمي، وتقوم بتزويد الجامعات والمراكز البحثية بالموارد المالية واللوجستية اللازمة، ما يسهم في تطوير البيئة الأكاديمية وزيادة الحوافز للبحث.
من جانب آخر، يلعب مجلس البحوث العلمية والتكنولوجية في تركيا، المعروف اختصاراً بـ “TÜBİTAK”، الذي تأسس عام 1963، دورا مهما في تنظيم وتمويل البحث العلمي في تركيا. يدير توبيتاك عشرات البرامج البحثية التي تستهدف دعم الأكاديميين والباحثين في الجامعات، وتمويل الابتكارات الصناعية، وتقديم منحٍ لطلبة الماجستير والدكتوراه، وتحفيز الشراكة بين الجامعات والقطاع الخاص. كما أن مجلس “توبيتاك” يشرف على المجلات المحكمة العلمية، ويدير مراكز بحثية متخصصة في التكنولوجيا والفضاء والبيئة والطاقة.
بالإضافة إلى مجلس التعليم العالي (YÖK) الذي تأسس عام 1981 لتنظيم التعليم العالي، حيث يشرف على أكثر من 200 جامعة حكومية وخاصة. ويدير برامج دعم للباحثين أبرزها: مشروع “100/2000” للدكتوراه، وبرامج تعاون دولي مع الجامعات الأوروبية والآسيوية، ودعم التخصصات النادرة والمجالات الاستراتيجية.
رئاسة الاستراتيجيات والميزانية (SBB) : حيث تدير هذه المؤسسة تمويلات مشاريع البنية التحتية للبحث العلمي، وتمول مراكز التميز في الجامعات الحكومية،كما تعمل على مواءمة البحث العلمي مع أهداف خطة التنمية الوطنية.
رئاسة الصناعات الدفاعية (SSB): والتي توفر تمويلاً واسعًا للبحوث التطبيقية في الصناعات المتقدمة، خاصة في مجالات الدفاع، الطيران، والأمن السيبراني، وذلك بالتعاون مع جامعات رائدة.

مؤسسات الوقف والدعم الأهلي:
تركيا وريثة تقليد طويل من دعم الوقف للعلم، وقد أُعيد تفعيل هذا الدور في العقود الأخيرة ضمن رؤية تُزاوج بين الموروث الحضاري والاحتياج المعاصر، حيث تلعب المديرية العامة للأوقاف ” Vakıflar Genel Müdürlüğü” والتي تدعم التعليم والمراكز الثقافية دورا بارزا وبشكل مباشر في تمويل المدارس والجامعات الوقفية، ورعاية مشاريع حفظ التراث العلمي، وتقديم منح دراسية للطلبة المحليين والأجانب.
منها وقف الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية (ESAM)الذي تأسس عام 1969، ويُعد من أقدم المراكز البحثية الإسلامية في تركيا. يُنظم مؤتمرات فكرية وبحوثًا في مجالات السياسة والاقتصاد الإسلامي والعلاقات الدولية.
وأيضا “مركز الدراسات الوقفية” الذي يتخصص في بحوث الاقتصاد الإسلامي والوقف، ويصدر مجلة علمية محكمة، وينظم ندوات بحثية بالتعاون مع جامعات تركية وعربية. بالإضافة إلى “المصرف الوقفي للتنمية العلمية والثقافية” والذي يوفر دعمًا ماليًا لتمويل المشاريع البحثية في المجالات الإنسانية والتقنية، من خلال استثمارات وقفية تعزز من الاستقلالية الأكاديمية.

التعاون الدولي في البحث العلمي:
تلعب الشراكة الدولية دورًا استراتيجيًا في تطوير بيئة البحث العلمي في تركيا، وقد نجحت أنقرة في الاندماج بعدة برامج أوروبية منها: برنامج ” Horizon Europe” وهو أكبر برنامج للبحث والابتكار في الاتحاد الأوروبي. تشارك فيه تركيا منذ 2003، واستفاد منه أكثر من 1200 مشروع تركي في علوم البيئة، والذكاء الاصطناعي، والطب الحيوي، والطاقة. وأيضا برنامج ” Erasmus+” الذي يُعزز التبادل الأكاديمي بين الطلاب والباحثين، كما يتيح منذ سنة 2004 آلاف المنح للطلاب الأتراك في أوروبا، إضافة إلى استضافة أكاديميين أوروبيين في تركيا، بالإضافة إلى مبادرة ” OpenAIRE” حيث دعمت تركيا هذه المبادرة الأوروبية لتعزيز الوصول المفتوح للنتائج البحثية، مما يسهم في رفع جودة النشر العلمي وتسهيل التعاون بين الباحثين.
فهذا التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف أبرمت لأجله اتفاقيات بحثية مع دول كألمانيا، اليابان، الصين، قطر، وماليزيا، وهدفه الأساسي التمويل المشترك للمشاريع، وتبادل للباحثين، ونقل للتكنولوجيا.. فهذه الشراكات لا تُؤدي فقط إلى تعزيز جودة البحث العلمي، بل تعزز أيضاً من قدرة تركيا على الانخراط بصورة فعّالة في التوجهات العالمية العصرية، مما ينعكس إيجاباً على الإنتاج العلمي الوطني ويساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

دور الجامعات في تعزيز البحث العلمي:
تلعب الجامعات التركية دورًا فعالًا في تنفيذ الاستراتيجية البحثية، من خلال إنشاء مراكز بحوث تطبيقية، وتوفير حاضنات أعمال وتقنيات. وتطوير برامج دراسات عليا نوعية، ومن أبرز الجامعات البحثية: جامعة إسطنبول التقنية، جامعة الشرق الأوسط التقنية، جامعة بوغازيتشي، جامعة إسطنبول، جامعة هاجيتيبه. كما تحتضن جامعات الأناضول وجامعات الوقف مشاريع بحوث ذات بعد مجتمعي وإنساني، خاصة في مجالات التاريخ، الشريعة، والعلوم الاجتماعية. فتركيا بهذا الجهد المبذول والدعم الممنهج الهادف تسير بخطى ثابتة نحو تعزيز مكانتها كمركز علمي إقليمي، مستندة إلى تعدد مصادر التمويل وتكاملها. فبينما توفر الدولة الدعم الاستراتيجي من خلال المؤسسات الرسمية، تُسهم الأوقاف في دعم الباحثين دون شروط سياسية أو تجارية، وتُتيح الشراكات الأوروبية والدولية فرصًا للاحتكاك بالمعايير العالمية في البحث والتطوير.
فهذا التكامل بين الجهد الحكومي والقطاع الأهلي والتعاون الدولي يُشكل بيئة خصبة لنمو البحث العلمي والابتكار، وهو ما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد والمجتمع والدور التركي في المحافل العلمية العالمية.