صمام أمان الذاكرة الجزائرية في عيد الاستقلال
بقلم: مراد ترغيني بين دُرَر الماضي ووهج الحاضر، تسطر الجزائر رواية عزتها، شهادة حية لشعب دفع أغلى الأثمان مقابل حريته. وفي هذا السياق، تبرز الوثيقة التاريخية كشاهدٍ أصدق على مسيرة النضال، ويقفو المركز الوطني للأرشيف كحارسٍ أمينٍ لها، مُجسدًا اليوم إحدى أبرز المؤسسات السيادية التي تُعنى بصون الذاكرة الوطنية وترسيخ الهوية التاريخية في …

بقلم: مراد ترغيني
بين دُرَر الماضي ووهج الحاضر، تسطر الجزائر رواية عزتها، شهادة حية لشعب دفع أغلى الأثمان مقابل حريته. وفي هذا السياق، تبرز الوثيقة التاريخية كشاهدٍ أصدق على مسيرة النضال، ويقفو المركز الوطني للأرشيف كحارسٍ أمينٍ لها، مُجسدًا اليوم إحدى أبرز المؤسسات السيادية التي تُعنى بصون الذاكرة الوطنية وترسيخ الهوية التاريخية في زمن التحولات العميقة.
ومع اقتراب البلاد من الاحتفاء بـ الذكرى الـ 63 لاسترجاع السيادة الوطنية (5 جويلية 1962 – 2025)، يتصاعد الرمز والمعنى لمكانة هذا المركز، ويعلو شأنُه كمؤسسةٍ ثقافيةٍ وعلميةٍ ووطنيةٍ بامتياز، تجاوز دورها الاقتصار على تأريخ الأمس بالوثيقة التاريخية، لتصبح بوصلة توجّه الحاضر وتُسهم في صناعة المستقبل.
من صمت الورق… تنبض حكاية شعب وصناعة مستقبل
تأسس المركز الوطني للأرشيف عام 1989، في قلب العاصمة الجزائر، بشارع حسان بن نعمان، في صرحٍ معماريٍ يمزج بين الأصالة العربية الإسلامية والوظيفة العصرية. لم يكن تأسيسه مجرد قرارٍ إداري، بل كان استجابةً لحاجةٍ ماسةٍ لحفظ الأرشيف الوطني، وتوفير الإطار المؤسساتي والتنظيمي لضمان حماية هذا الإرث الثمين من مخاطر الضياع، التلاشي، أو حتى الاستغلال المشوّه.
ومع كل عام يمضي، لا يقف دور المركز عند حدود التصنيف والحفظ المادي، بل يتجاوز ذلك ليُصبح منصة حية لإعادة قراءة التاريخ، ونشر الوعي الجمعي بتراث الأمة. يتجلى ذلك بوضوح في تنظيم المعارض الوثائقية الملهمة، وإحياء المناسبات الوطنية الكبرى، وفي مقدمتها ذكرى عيد الاستقلال. حينها، تتجلى الأرشيفات الوطنية كشهادات حية على بطولات المقاومة، بيانات الثورة الصادقة، خطابات القادة الملهمة، وأرشيف المعذبين والمنفيين، لتظل تلك الروايات الموثقة ماثلة أمام الأجيال، تبني هويتها وتصقل وعيها.
حماية الذاكرة ليست ترفًا… بل ركيزة سيادية وواجب وطني
في ظل سعي بعض الجهات لتزوير التاريخ أو التلاعب بوقائع الاستعمار البغيض، يضطلع المركز بدور استراتيجي لا غنى عنه في مواجهة محاولات التشويه أو الطمس المتعمد. يتحقق ذلك عبر بناء سياسات أرشيفية حديثة ومتينة، تضمن للوثيقة التاريخية أصالتها، مصداقيتها، وحصانتها في وجه أي محاولة للانتقاص منها.
إن الأرشيف ليس مجرد تراكمٍ للأوراق، بل هو سند سيادي بامتياز، وإثباتٌ قانونيٌ راسخ، ودليلٌ سياسيٌ وثقافيٌ دامغ على مسار كفاح الجزائر وتضحياتها. وتتجلى أهمية المركز بوضوح في دعمه للمشتغلين على البحث العلمي والأكاديمي، وتمكينهم من الوصول إلى مصادر موثوقة، مما يُسهم في إعادة كتابة السرد الوطني برؤيةٍ جزائريةٍ أصيلة، بعيدًا عن أي تأثيرات خارجية أو خطابات مشوهة.
رقمنة الوثائق: نحو ذاكرة رقمية متكاملة ومتجددة
لم يغب عن المركز الوطني للأرشيف تحديات العصر الرقمي؛ لذا فقد انخرط بكل قوة في مسار تحديثٍ شامل، يُركز على رقمنة شاملة للوثائق، وضمان حفظها في وسائط إلكترونية متطورة. تهدف هذه الجهود إلى حماية الأرشيف من مخاطر التلف أو الضياع المادي، وتسهيل الوصول إليه، سواء من داخل الوطن أو خارجه، بما يعزز الانفتاح والمعرفة.
لعلّ أبرز الإنجازات في هذا المضمار هو إطلاق منصات إلكترونية وفهارس مؤرشفة متكاملة، تُعزز من تواصل المركز مع المؤسسات الأكاديمية والباحثين. كما تساهم هذه الخطوات في نشر الثقافة الأرشيفية على أوسع نطاق، وخاصة بين شرائح الناشئة، التي تحتاج إلى أدواتٍ تربويةٍ حديثة تبني وعيها الوطني وتُرسخ انتمائها.
منارة علمية ومقصد للباحثين: رؤية متجددة للذاكرة الوطنية
تحت الإشراف المباشر لمديره الموقر، الأستاذ محمد تيليوين، يشهد المركز ديناميكيةً متجددة، تُركز على تشجيع البحث العلمي الرصين. يتجلى ذلك في توفير فضاءاتٍ مهيأةٍ ومجهزةٍ للباحثين، وتيسير وصولهم إلى كنوز الوثائق ذات الطابع التاريخي، الدبلوماسي، والثقافي.
وقد حظيت الجهود المبذولة بثناءٍ وتقديرٍ كبيرين من قِبل زوار المركز من الجامعيين والطلبة، الذين أشادوا بـ الاحترافية العالية وحفاوة الاستقبال التي لمسوها. يعكس هذا الانطباع روح الخدمة الوطنية الأصيلة، ويُترجم رؤية الدولة في تحويل الذاكرة الوطنية إلى فضاءٍ حيويٍ ومُتاح، وليس مجرد تركةٍ إداريةٍ جامدة.
في عيد الاستقلال: ذاكرةٌ لا تُفقد، هويةٌ تُصان
مع حلول عيد الاستقلال، لا تكتمل فرحة الجزائريين وسعادتهم دون استحضار مشاهد البطولة والتضحية التي سقتها دماء الأبرار. ولا يتحقق هذا الاستحضار الأمين والعميق إلا بوجود مؤسسةٍ رائدةٍ كـالمركز الوطني للأرشيف، الذي يتولى توثيق اللحظات المفصلية من نضال شعبٍ بأكمله، ويضعها بين أيدي المواطنين والباحثين والمؤرخين، بشفافيةٍ ودقةٍ وحرصٍ وطنيٍ لا يتزعزع.
إن صون الأرشيف هو بمثابة صونٍ للمستقبل نفسه، وكتابةٍ للهوية بحبر الوعي واليقين، في عالمٍ يكتنفه الاضطراب وتتداخل فيه السياقات المعقدة.
خاتمة: من واجبنا أن نتذكر، ولأجل الغد أن نحفظ
إذا كانت الجيوش تحرس الحدود الجغرافية للوطن، فإن الأرشيف يحرس حدوده التاريخية، ويصون ذاكرته من أن تُختزل، تُهمش، أو تُغتال.
وفي ذكرى الاستقلال المجيدة، نرفع تحية إجلالٍ وتقدير لكل من يعمل بصمتٍ ودأبٍ، لترتيب الوثائق، إحياء الأسماء الغائبة، وإعادة البث في حياة صورٍ وملفاتٍ قديمة، لكنها تحمل صدقًا وحقيقةً يفوقان كثيرًا من الحكايات المعاصرة.
فتحيةٌ تقديرٍ خالصة لـ المركز الوطني للأرشيف، الحارس الأمين للذاكرة الجزائرية، القلعة الشامخة للوثيقة التاريخية، والعين الساهرة التي لا تنام على كنز الوطن اللامادي.