علماء الرياضيات… حين يُكرَّمُون بعد الرحيل !
احتضنت جامعة عين تموشنت، خلال الفترة الممتدة من 21 إلى 23 جوان الجاري، ملتقىً علميًّا وازنًا تحت عنوان “أيام رياضياتيّة تكريمية للفقيد محند موساوي”. جمع هذا اللقاء ثلة من الباحثين والمتخصصين في الرياضيات (فرع المعادلات التفاضلية الجزئية، وهو اختصاص المرحوم). وقَدِم هؤلاء من داخل الوطن وخارجه، وكذا مجموعة من طلبة الدكتوراه في هذا الحقل. وقد […] The post علماء الرياضيات… حين يُكرَّمُون بعد الرحيل ! appeared first on الشروق أونلاين.


احتضنت جامعة عين تموشنت، خلال الفترة الممتدة من 21 إلى 23 جوان الجاري، ملتقىً علميًّا وازنًا تحت عنوان “أيام رياضياتيّة تكريمية للفقيد محند موساوي”. جمع هذا اللقاء ثلة من الباحثين والمتخصصين في الرياضيات (فرع المعادلات التفاضلية الجزئية، وهو اختصاص المرحوم). وقَدِم هؤلاء من داخل الوطن وخارجه، وكذا مجموعة من طلبة الدكتوراه في هذا الحقل. وقد أبلى المنظمون المحليون والقائمون على هذه التظاهرة العلمية بجامعة عين تموشنت البلاء الحسن من حيث التنظيم والاستقبال والوفاء لروح الفقيد الذي ترك بصمة أكاديمية وإنسانية لا تُمحى.
المرحوم محند موساوي
ولد المرحوم محند موساوي (1947-2023) بقرية سيدي عيش (ولاية بجاية)، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بالعاصمة. وكان من الجيل الأول لأساتذة الرياضيات في الجامعة الجزائرية. وقد تخرّج من المدرسة العليا للأساتذة بالقبة سنة 1969، ثم شقّ مسيرته الأكاديمية بثبات واقتدار، حيث درّس منذ مطلع السبعينيات في قسم الرياضيات بالجامعة المركزية (الجزائر 1 حاليا) قبل تأسيس جامعة العلوم والتكنولوجيا هواري بومدين (باب الزوار). وبعد حصوله على دكتوراه الدولة عام 1977 بفرنسا عاد إلى الجزائر، وظلّ يعمل بها كأستاذ وباحث وناشط في تسيير شؤون الرياضيات بجامعة باب الزوار حتى مطلع التسعينيات. بعد ذلك، انتقل إلى فرنسا بمعية عائلته -كما فعل عديد الزملاء آنذاك- حيث واصل مشواره العلمي في مؤسسات أكاديمية مرموقة، وظلّ يزاوج بين التدريس والبحث إلى أن أحيل على التقاعد سنة 2011 بفرنسا. وفي السنة ذاتها عاد إلى الجزائر.
لم يكن تقاعده نهاية العطاء، إذ فضل الالتحاق مباشرة عند عودته إلى أرض الوطن بالمدرسة العليا للأساتذة-القبة حيث انضمّ لمخبر المعادلات التفاضلية الجزئية يشارك في تدريس طلبة ما بعد التدرج وتأطيرهم ومرافقتهم جميعا. وظلّ عضوًا فاعلًا في هذا المخبر إلى غاية وفاته عام 2023. من المفيد أن نشير في هذا المقام إلى أنه لم ينقطع، طيلة عمله بالخارج، عن تقديم يد العون والدعم لطلبة الدراسات العليا والباحثين والأساتذة في وطنه، سواء بالتأطير أو التعاون العلمي أو المرافقة المعنوية. لقد كان همزة وصل حيّة بين الجامعة الجزائرية ونظيراتها في فرنسا بوجه خاص، وبقي على عهد الوفاء لوطنه وأبنائه. ومن المعلوم أن مخبر المعادلات التفاضلية الجزئية بالمدرسة العليا للأساتذة قد بادر إلى تكريمه عام 2012، بتنظيم ملتقى دولي للرياضيات على شرفه، تقديرًا لما قدّمه من خدمات جليلة في حقل الرياضيات لجميع من طلبها منه داخل الوطن. ذلك أن المرحوم لم يكن مجرّد باحث وأستاذ في الرياضيات، بل كان أبًا علميًا ومعينًا لا ينضب، يسعى على الدوام إلى مساعدة من حوله من طلبة وباحثين، بتواضع لا يضاهى وبأخلاق عالية دون تكلّف. كان يعمل ويبحث ويساعد وينصح، إلى أن وافته المنيّة سنة 2023، بعد شهرين فقط من رحيل زوجته.
وهذا أمر جدير بالتنويه في بلدٍ لا يُعرف عنه اهتمامه الكبير بعلمائه، خاصةً في مجال العلوم الدقيقة، وعلى رأسها الرياضيات التي طالما ظلّ رجالها في الظلّ، لقِلة مخاطبة الجمهور العريض، ولندرة ظهورهم الإعلامي مقارنة ببقية العلماء في الاختصاصات الأخرى. ولذلك تبقى مبادرات التكريم لهؤلاء بمثابة إشارات نادرة، لكنها ثمينة، تعيد الاعتبار لما يستحقه العطاء الهادئ والمثمر.
الملتقى التكريمي
جاءت هذه التظاهرة بعد محاولات متعددة منذ رحيل المرحوم في خريف عام 2023. وهذه المحاولات كان من ورائها الزملاء أساتذة الرياضيات عيسى عيبش (جامعة سطيف) وعبد الرحمن يوصفات (جامعة بلعباس) وشريف عمروش (جامعة بو) لكن بدون جدوى. وفي الأخير، استجاب إلى هذا النداء السيد عبد القادر زيادي، رئيس جامعة عين تموشنت. ومع أن هذا الأخير ليس من الرياضياتيين، فقد رحّب بهذه التظاهرة مشكورا، وأحاط المشاركين من الداخل والخارج بعناية خاصة. وفضلا عن ذلك كان (الفيزيائي) رئيس الجامعة يحضر تقريبا جميع فعاليات الملتقى خلال الأيام الثلاثة رغم كثرة المشاغل المعروفة خلال نهاية السنة الجامعية. وقد أبى في ختام الملتقى إلا أن يكرم المنظمين وبعض المشاركين وابنيْ المرحوم. وهي لفتة ثمّنها جميع المشاركين.
أما برنامج فعاليات التظاهرة فامتازت بمحاضرات قيمة وبمداخلات علمية راقية في مجال المعادلات التفاضلية الجزئية، وبمداخلات أخرى تستعرض شهادات حيّة، قدّمها زملاء وباحثون وقدماء طلبة الفقيد. ومن هؤلاء من عرفوا محند موساوي عن قرب، وآخرون شاركوه في النشر العلمي سواء في داخل الوطن أو عبر التعاون البحثي في الخارج. وهكذا شارك باحثون من فرنسا وإيطاليا منتسبون لجامعات مرسيليا، ليون، نانسي، لوهافر، تولوز، رين، بو، ساليرمو. وهذا ما يدلّ على الأثر الطيب الذي تركه الفقيد في تلك المؤسسات ولدى زملائه من الباحثين في الخارج.
أما من الجزائر، فقد كان الحضور العلمي ثريًا من مختلف الجامعات: المدرسة العليا للأساتذة-القبة، الجزائر 1، المدرسة العليا للرياضيات، باب الزوار، وهران، بلعباس، سطيف، خنشلة، باتنة، بومرداس، تلمسان، تيارت، شلف… ، وهي المؤسسات التي كان للفقيد فيها طلاب وزملاء وبصمات لا تُنسى. وقد حرص المنظّمون أيضًا على دعوة ابنيْ الفقيد لحضور أيام التكريم حتى يكون الحضور الإنساني كاملاً في لحظة امتنان وطنية صادقة.
لم تكن هذه الأيام مجرّد نشاط جامعي في مجال الرياضيات، بل كانت لحظة وفاءٍ قلّ نظيرها، أعادت الاعتبار إلى سيرة رجلٍ لم يسعَ إلى الأضواء، لكنه كان شمعة مضيئة في صمت. وإنه لمن المؤسف ألا يتحقق هذا الاعتراف إلا بعد الرحيل، حين تُقفل أبواب العطاء وتُفتح دفاتر الذكرى. لكنّ الأمل باقٍ في أن تكون هذه المبادرة بذرة لثقافة جديدة: ثقافة التقدير أثناء حياة العلماء، لا بعدها فقط، وأن تتحوّل مثل هذه الملتقيات إلى تقليد جامعي يعيد إلى الرياضيات مكانتها في المجتمع، ويعيد الدفء إلى ذاكرة مؤسساتنا العلمية.
وختامًا، فإن ما حدث في جامعة عين تموشنت بفضل استجابة رئيسها لنداء الزملاء، خلال تلك الأيام الثلاثة، يستحق أن يُسجّل، بوصفه تكريمًا للراحل، وأيضا بوصفه رسالةً إلى الأحياء تقول: إن العطاء لا يُنسى، وإن الوفاء لا يموت، وإن الرياضيات في هذا الوطن ما زالت حيّة بأمثال محند موساوي رحمة الله عليه.
شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين
The post علماء الرياضيات… حين يُكرَّمُون بعد الرحيل ! appeared first on الشروق أونلاين.