أسباب الثّبات على الاستقامة (2)

زماننا هذا صعب ومخيف، والمؤمن ينبغي أن يكون فيه وَجِلا على دينه أن يضيع منه، وعلى إيمانه أن يُسلبه، باحثا عن أسباب الثّبات ليتشبّث بها ويراغم نفسه عليها.. ومن فضل الله الكريم أنّ هذه الأسباب كثيرة؛ يسعى العبد المؤمن لأن يجعل لنفسه حظا من جميعها، أو يتشبّث -على الأقلّ- ببعضها ويجاهد نفسه على الظّفر بجملتها. […] The post أسباب الثّبات على الاستقامة (2) appeared first on الشروق أونلاين.

أبريل 7, 2025 - 18:24
 0
أسباب الثّبات على الاستقامة (2)

زماننا هذا صعب ومخيف، والمؤمن ينبغي أن يكون فيه وَجِلا على دينه أن يضيع منه، وعلى إيمانه أن يُسلبه، باحثا عن أسباب الثّبات ليتشبّث بها ويراغم نفسه عليها.. ومن فضل الله الكريم أنّ هذه الأسباب كثيرة؛ يسعى العبد المؤمن لأن يجعل لنفسه حظا من جميعها، أو يتشبّث -على الأقلّ- ببعضها ويجاهد نفسه على الظّفر بجملتها.
أوّل أسباب الثّبات: أن يمحّص العبد إيمانه بربّه، ويسعى جاهدا في زيادته؛ بأن يستشعر رقابة مولاه في كلّ أحواله وأوقاته، مؤْثرا مرضاته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، يقول الله تعالى: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء)) (إبراهيم: 27)، وهذا الإيمان الذي يكون سببا في ثبات صاحبه في مواجهة الفتن، ليس هو الإيمان المجرّد الذي لا يعدو أن يكون معلومات يحملها العبد في ذهنه ولا أثر لها في حياته، إنّما هو الإيمان الذي يؤثّر في خيارات العبد وقراراته، موجّها في البدء ومسدّدا في المسار ومؤنّبا في حال الخطأ والحيدة.
ومن أهمّ أسباب الثبات –كذلك- أن يجعل العبد دينه على رأس أولوياته؛ أن يكون دينه هو أغلى ما يملك في هذه الدّنيا، وأن يكون مستعدّا لأن يتنازل عن كلّ شيء في هذه الدّنيا لأجل دينه، وألا يقبل أيّ مساومة فيه، ولا يبيعه بعرض قليل ولا كثير من الدّنيا. من ساومه في دينه لأجل مال أو منصب أو متاع، طلب منه رشوة –مثلا-، أو طلب من المؤمنة أن تتخلى عن حجابها؛ فالجواب الذي لا تردُّد فيه أبدا، هو: “كلا، لا والله، ديني ليس للمساومة ولا للبيع والشراء”.
أمّا إن كانت زوجته وأبناؤه أغلى عنده من دينه، أو كانت وظيفته ومنصبه أعزّ عليه من دينه؛ فليعلم أنّه على خطر عظيم، وأنّه يمكن أن يسلب إيمانه، وحتى إن لم يسلب دينه كاملا، فإنّ دينه الذي سيلقى الله به لن ينفعه عند الله ولن ينجّيه من عذابه: ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين)).
ومن أسباب الثّبات على دين الله أيضا: أن يكون العبد جادا عندما يتعلّق الأمر بدينه، ((فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا))، ((وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ)).. في أمور الدّنيا يمكن العبدَ أن يمزح ويلهو في إطار المباح، لكن عندما يتعلّق الأمر بالدّين، فليترك المزاح واللعب جانبا، وليحسب الحساب لكلماته وحركاته.. عندما يتعلق الأمر –مثلا- بمباراة في كرة القدم يخوضها مع أصدقائه؛ ليلعب أو يترك، يقدّم وقت المباراة أو يؤخّره، لكن عندما يتعلّق الأمر بالصّلاة عمود الدّين فليكن حازما مع نفسه لا يستحيي من أحد: الوقت هو الوقت، والمقام هو المقام؛ لا تأجيل ولا تأخير ولا مجاملة.. يجعل هذه الآية المزلزلة نصب عينيه: ((وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُون)).. دين الله يسر ولا حرج فيه ولا آصار ولا أغلال، لكنّه جدّ لا يقبل الهزل، وفرائض من تهاون بها ذاق وبال أمره في الدّنيا والآخرة، وحدود من تجاوزها أوبق نفسه.
ومن أسباب الثّبات على دين الله أيضا: أن يستشعر العبد مسيس حاجته إلى تثبيت مولاه؛ فلو تخلّى الله عن عبد من عباده ووكله إلى نفسه وشيطانه ليضلنّ؛ فهذا أرسخ عباد الله دينا وأقواهم إيمانا محمّد –صلّى الله عليه وآله وسلّم- يقول له مولاه –سبحانه-: ((وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً”))، وكان –صلوات ربي وسلامه عليه- لا يكلّ من دعاء ربّه –سبحانه- قائلا: “اللهمّ يا مثبّت القلوب ثبّت قلبي عل دينك”.
فالحذر الحذر أخي المؤمن أن أغترّ وإياك بأنفسنا وننسى حاجتنا إلى معونة ربّنا وتثبيته؛ فوالله لئن لم يثبّتنا ربّنا لتزيغنّ قلوبنا أمام فتن هذا الزّمان.. مهما كنتَ محافظا على صلاتك في المسجد، مهما ظهر عليك من صلاح في هيئتك وسمتك، فلا تغترّ بنفسك. فكم من دعاة وعلماء وصالحين تخلّى الله عنهم فانقلبوا على أعقابهم وارتدّوا عن دينهم!

والعبد المؤمن ينبغي أن يبكي لمولاه ويتوسّل إليه ويدعوه دعاء الفقير الخائف الوجل أن يثبّت قلبه ويحفظ له دينه وإيمانه، وأن يختم له بالحسنى، وأن يكثر من دعاء: ((رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب)) (آل عمران: 8)، ومن دعاء: “يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّت قَلْبي على دينك”.
ومن أسباب الثّبات على الدّين كذلك: استحضار عظيم أجر من يصبر على دينه ويجاهد نفسه ويتعب معها ويراغمها ويبكي لأجل أن تلزم طاعة الله وتبتعد عن معصيته، ويسعى لأن يكون من القابضين على الجمر في زمن الفتن، يقول النبيّ –عليه الصّلاة والسّلام-: “يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه، كالقابض على الجمر” (رواه الترمذي)، وقد بشّر الحبيب –عليه السّلام- الثابت على دينه في زمن الفتن بأنّ له أجر خمسين من الصحابة، فقال: “إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهنَّ يومئذٍ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم” (سلسلة الأحاديث الصحيحة). وفي رواية الطبراني: “للمتمسك أجر خمسين شهيداً”.. فيا الله! أعد قراءتها أخي الشابّ؛ يا من تشكو كثرة الفتن في الشوارع والأسواق والمدارس والجامعات، وأمام الهاتف والتلفاز.. أعيدي قراءتها يا فتاة الإسلام، يا من تشكين غربة الحجاب الشرعيّ وصعوبة الالتزام به، وتشكين كثرة رفيقات السوء وكثرة من يصدّ عن سبيل الله: “للمتمسك أجر خمسين شهيداً”!
ومن أسباب الثبات على دين الله وعلى الطاعات –كذلك-: الإقبال على كتاب الله –تعالى- تلاوة وسماعا وتعلماً وعملاً وتدبراً، قال الله –تعالى-: ((قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ))؛ ووالله ما اتخذ عبد من عباد الله القرآن صاحبا وجليسا وخِلا وأنيسا إلا وأخرج النفاق والشكّ والشبهات والشهوات من قلبه، وشغله بما ينفعه وعصمه ممّا يضرّه.. وأثبتُ النّاس على الدّين والطّاعة، أكثرهم قربا من القرآن، وكلّما ازداد العبد قربا من القرآن ازدادت حلاوة الإيمان في قلبه، وازداد يقينه بربّه ودينه، وازداد حبا للطّاعات ومقتا للمعاصي والمنكرات.
فجدّد عهدك بالقرآن واختر له من أعزّ أوقاتك، وفرّغ له قلبك، وادع الله أن يجعله ربيعا لقلبك ونورا لبصرك وجلاءً لحزنك وذهابا لهمّك، واحفظ هذا الدّعاء الذي أوصانا به شفيعنا –عليه الصّلاة والسّلام- وردّده آناء الليل وأطراف النّهار: “اللَّهمَّ إنِّي عبدُكَ ابنُ عبدِكَ ابنُ أَمَتِكَ. ناصِيَتي بيدِكَ. ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ. عَدْلٌ فيَّ قضاؤُكَ. أسأَلُكَ بكلِّ اسمٍ هو لكَ سمَّيْتَ به نفسَكَ أو أنزَلْتَه في كتابِكَ أو علَّمْتَه أحَدًا مِن خَلْقِكَ أوِ استأثَرْتَ به في عِلمِ الغيبِ عندَكَ أنْ تجعَلَ القُرآنَ ربيعَ قلبي ونورَ بصَري وجِلاءَ حُزْني وذَهابَ همِّي”.

شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين

The post أسباب الثّبات على الاستقامة (2) appeared first on الشروق أونلاين.