الرِّفق أفضلُ أسلوبٍ في كل شؤون الحياة
بقلم: أ.د. مسعود فلوسي روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ». مما هو ملاحظ في حياتنا؛ شيوع العنف القولي والفعلي في مختلف مجالات الحياة، فنحن …

بقلم: أ.د. مسعود فلوسي
روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ».
مما هو ملاحظ في حياتنا؛ شيوع العنف القولي والفعلي في مختلف مجالات الحياة، فنحن كثيرا ما نلجأ إلى استعمال أسلوب العنف والخشونة والحِدَّة، ونتصور أن هذا هو الأسلوب الصحيح والأمثل، سواء في دائرة الأسرة أو في العلاقات مع الجيران أو في العلاقة مع زملاء العمل أو في التربية والتعليم أو في الإدارة أو في غير ذلك من المجالات، حيث الأسلوب الشائع هو العنف، والعنف ليس بالضرورة هو الضرب، وإنما العنف في الألفاظ والعنف في تسيير الأمور. هذا الأسلوب لا خير فيه، وهو مرفوض في ديننا الحنيف، ولا يأتي أبدا بنتائج حسنة، وإنما يأتي دائما بنتائج سيئة، فيفسد العلاقات ويعطل المصالح.
الرفق أصح الأساليب وأحسنها:
الأسلوب الصحيح والمنهج السليم الذي جاء به الإسلام هو أسلوب الرفق واللطف، وهو ما يؤكده النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف: «إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ». زانه؛ زيَّنَه. شانه؛ أفسده وشوهه. والرفق هو اللطف والمرونة، هو استعمال اللين، هو اعتماد الأسلوب الذي يُرغب الغير في التفاعل، واستبعاد كل ما من شأنه أن يمنع التفاعل أو يعرقل قيام العلاقات الحسنة مع الآخرين. والرفق ضده هو العنف والحِدَّة، سواء في القول أو في الفعل أو في التفكير.
ففي هذا الحديث يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحسن أسلوب ينبغي للمؤمن أن يستعمله في ذاته وفي محيطه، وينبغي للمؤمنين أن يستعملوه فيما بينهم في تعاملاتهم هو أسلوب الرفق. لأن الرفق إذا وجد في العلاقات والمعاملات فهو يُزينها ويُحسِّنها ويجعلها تؤتي ثمارها. بينما عندما يُنتزع الرفق أو لا يُستعمل في هذه العلاقات فإنها تفسد وتنتهي إلى نتائج سلبية، فلا يكون هناك محبة بين الناس ولا مودة ولا تراحم، فتتعطل أمورهم أو لا تقضى مصالحهم إلا بعسر ومشقة وحرج.
وليس المراد بالرفق؛ الميوعة أو الضعف أو التساهل فيما لا يجوز التساهل فيه أو عدم أخذ الأمور بجد، ليس هذا هو الرفق المطلوب، وإنما المراد به أخذ الأمور ببساطة وبدون عنف، فالأمور لابد أن تدار بالحزم لكن مع الحكمة والإحسان. فمثلا الأب الذي يريد ابنُه أن يفعل شيئا أو يريد الحصول على شيء غير مناسب أو غير مشروع، لا يجوز له أن يتركه يفعل ما يريد، لكن لا ينبغي أن يستعمل العنف (الكلام الجارح أو الضرب) في منعه منه، وإنما يحرص بالحكمة على أن يصرفه عنه ويوجهه إلى غيره مما هو أفضل له وأحسن.
لماذا كان الرفق هو الأسلوب الأمثل؟
أولا: لأن الله تعالى رفيق، فهو يعامل عباده بالرفق، ولذلك يحب عليهم أن يتعاملوا فيما بينهم بالرفق واللطف. عن عائشة رضي الله عنها أَن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعْطِي على الرِّفق ما لا يُعطي عَلى العُنفِ، وَما لا يُعْطِي عَلى مَا سِوَاهُ» (رواه مسلم). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الرِّفق في الأمر كله» (متفق عليه).
وثانيا: لأنه تعالى حَلَّى نبيه صلى الله عليه وسلم بخلق الرفق في المعاملة ومَدَحَه به، قال سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، وقال عز وعلا: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء:215). وقال سبحانه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 128). وهذا ما كانت عليه معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للناس في الواقع، ومن ذلك ما جاء في حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: بَال أَعْرَابيٌّ في المسجِد، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْه لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَعُوهُ، وَأَرِيقُوا عَلى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِن مَاءٍ، فَإِنَّما بُعِثْتُم مُيَسِّرِينَ ولَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» (رواه البخاري).
وثالثا: لأنه سبحانه وتعالى أمر المؤمن أن يعامل غيره باللطف حتى تلين القلوب ولا تتعادى، قال عز وجل: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت: 34).
ورابعا: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من لا يتعامل بالرفق من الحرمان، فعن جرير بن عبداللَّه رضي الله عنه قالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقُولُ: «مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرمِ الخيْرَ كُلَّهُ» (رواه مسلم)، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أُعْطيَ حظَّهُ منَ الرِّفقِ فقد أُعْطيَ حظَّهُ منَ الخيرِ، ومن حرمَ حظَّهُ منَ الرِّفقِ فقد حُرِمَ حظَّهُ منَ الخيرِ» (رواه الترمذي).
من مجالات الرفق:
لابد – إذن – من الأخذ بالرفق في كل الشؤون؛ في الأسرة، والمدرسة، والإدارة، وسائر المجالات والمؤسسات.
فالأسرة هي البيئة الأولى التي ينبغي أن يكون الرفق هو أساس التعامل بين أفرادها، لأن العلاقات التي تربط بينهم هي علاقات حميمة، قال تعالى في وصف العلاقة بين الزوجين: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة:187)، وقال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21)، وعن عبيد الله بن معمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أُعْطِيَ أهلُ بَيتِ الرِّفْقَ إلَّا نَفَعَهُمْ، ولا مُنِعُوهُ إلَّا ضَرَّهُمْ» [رواه أبو نعيم]. لكن الملاحظ في الواقع أن كثيرا من الأسر لا يتعامل أفرادها فيما بينهم بالرفق، فلا تراحم ولا مودّة ولا تعاون بين الزوجين، يصرخان في وجهَيْ بعضهما ويشتمان بعضهما، ويتعاملان مع أولادهما بنفس الأسلوب المقرون بالضرْب والإهانة، مما يجعل هذه الأسرة تتحول إلى بؤرة للعنف، فيتربى الأبناء عليه ويكبروا وهم لا يعرفون من الأساليب سواه، وهو ما سينعكس على حياتهم الشخصية والاجتماعية وعلى علاقاتهم بوالديهم في المستقبل. لذلك ينبغي للآباء أن يستعملوا أسلوب الرفق، لأن الأسرة هي أساس المجتمع، وأعظم مسؤولية هي مسؤولية إدارة أسرة.
وكذلك الحال بالنسبة للتربية والتعليم، فهو من أكثر مجالات الحياة حاجة إلى استعمال الرفق واللطف، فالتعليم هو تلقين الإنسان معلومات ومهارات يحتاجها في حياته، والتربية هي تهذيب أخلاقه وتهيئة نفسيته ليكون إنسانا صالحا نافعا لنفسه ولمجتمعه. وكلا هذين الأمرين يحتاجان لتحقيقهما إلى أرق أساليب التعامل وألطفها، وهو ما كانت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علّموا، ويسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا، وإذا غضبَ أحدكُم فليسكُت» (رواه أحمد).
لكن عندما يُستعمل العنف في هاتين المهمتين فإنهما ستخفقان ولا تحققان أي نتيجة تذكر، وهو ما سيؤدي إلى إعراض التلاميذ عن التعليم وهروبهم من المؤسسات التعليمية والتربوية، فلا يحصلون من التربية والتعليم على ما يصلح نفوسهم ويهيئهم للانتماء إلى المجتمع والمشاركة في خدمته. وهو ما نبه الله عز وجل إليه نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: 159).
مثل ذلك ما يتعلق بمجال الدعوة والإصلاح؛ فالداعية أو المصلح يدعو الناس إلى الخير، وهو أحوج الناس إلى استعمال أسلوب الرفق واللين، وهذا ما أمر الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125). وهو أيضا ما يعلمنا إياه ربنا سبحانه وتعالى من خلال قصة موسى وهارون مع فرعون، فقد أمرهما بالذهاب إليه ومخاطبته بلطف ورفق، قال تعالى: (اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) (طه: 43-44). ومثل ذلك الإمام الذي يصلي بالناس عليه أن يرفق بهم ويراعي ضعفاءهم، عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قَالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنِ الصَّلَاةِ في الفَجْرِ ممَّا يُطِيلُ بنَا فُلَانٌ فِيهَا، فَغَضِبَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ… ثُمَّ قالَ: «يا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ مِنكُم مُنَفِّرِينَ، فمَن أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ، فإنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ والكَبِيرَ وذَا الحَاجَةِ» (رواه البخاري).
ومثله كذلك مجال ممارسة المسؤولية في أي مستوى وفي أي مؤسسة، فالمسؤول يلزمه أن يعتمد في القيام بمسؤوليته اللطف واللين والرفق وكسب القلوب، بدلا من أسلوب العنف الذي يؤدي إلى توتر العلاقات وتعطل المصالح. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على كل من يتولى مسؤولية في أمته مهما كانت ويتعامل بالعنف ولا يستعمل الرفق، فعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ في بيتي هَذَا: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» (رواه مسلم).
وهكذا يتبين أن الرفق هو الأسلوب الأمثل والأفضل في تعامل الإنسان مع كل من يتصل بهم، وفي كل الدوائر التي يتحرك فيها، وبدونه تختل حياة الإنسان وتفسد علاقاته، فيفقد طمأنينته وسعادته.