ذكرى الاستقلال والحرية يوم استرجاع السيادة الوطنية
الشيخ محمد مكركب أبران نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/ يتذكر الشعب الجزائري بكل فخر واعتزاز يوم الخامس جويلية، ذكرى يوم الاستقلال والحرية، واسترجاع السيادة الوطنية، للدولة الجزائرية، إنه يوم ثمرات مائة سنة واثنتين وثلاثين سنة، من المقاومة والجهاد والتضحية والاستشهاد. يوم من تاريخ الأمة الجزائرية الحافل بالبطولات، والأحداث والآيات، إنه يوم الحرية والعزة والكرامة …

الشيخ محمد مكركب أبران
نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
يتذكر الشعب الجزائري بكل فخر واعتزاز يوم الخامس جويلية، ذكرى يوم الاستقلال والحرية، واسترجاع السيادة الوطنية، للدولة الجزائرية، إنه يوم ثمرات مائة سنة واثنتين وثلاثين سنة، من المقاومة والجهاد والتضحية والاستشهاد. يوم من تاريخ الأمة الجزائرية الحافل بالبطولات، والأحداث والآيات، إنه يوم الحرية والعزة والكرامة والنصر. وفيه وقفات مع ذكريات المجاهدين والشهداء، ونضال المفكرين والدعاة والعلماء، كما أنه يوم وقفات مع أجيال الاستقلال، الذين سُلِّمَت لهم رايةُ الوطن، هذه الراية الجزائرية الغالية، والتي تظل عالية، إن شاء الله العلي العظيم. فكم أتمنى أن يفقه جيل الاستقلال عظمة هذا اليوم، الذي دفع الشعب الجزائري من أجله أكثر من ستة ملايين من الأنفس الجزائرية، في مدة قرن وربع قرن من المقاومات، المسجلة على صفحات الزمان والمكان بمداد العلماء، ودماء الشهداء، ودموع الأبرياء..
يقف تاريخ الجزائر اليوم ـ خمسة جويلية 2025م ـ على عتبة الذكرى الثالثة والستين، ليوم استقلال الجزائر، وما أدراكم ما استقلال الجزائر، يوم التكبير، وجَلَالِ التعبير، بالترحم على الشهداء، والدعاء للجزائر بدوام العز والأمن والهناء، يوم الزغاريد المنبعثة من حارات المداشر، ومن شوارع المدن والساحات والمعابر.
فما هي قيمة الذكرى؟ هي ثلاث وستون سنة من الاستقلال!! والوقفة الأولى مع التاريخ تقول: فبقدر ما نفتخر بتاريخنا وبطولات علمائنا، ومجاهدينا، وشهدائنا، بما تركوه لنا من الفخر والاعتزاز، والرصيد البطولي الْمُشَرِّف للجزائر وللشعوب الإسلامية التي استفادت من تجارب الثورة الجزائرية، إلا أن الغاية من التَّذَكُّر والتذكير بأيام الله سبحانه، أن ندرس تاريخنا، لنشكر ربنا، ونحفظ وطننا، ونحمي سيادتنا، وندافع عن كرامتنا وأمانة شهدائنا، حِفْظًا لوحدتنا الإقليمية الترابية، وحفظا لأمن حدودنا، ووحدتنا الوطنية، ثم حفظا لهويتنا الإسلامية. ثم إن أكبر موعظة من مواعظ تاريخ الجهاد، وأكبر عبرة من عبر ذكرى يوم الاستقلال، هي: التخلص من التبعية الْمُذِلّة لغير المسلمين، سواء التبعية السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية أو غيرها. لأن أي واحد يسأل نفسه: لماذا ضحينا بملايين الشهداء عبر كل البلدان الإسلامية، ولماذا جاهدنا طول تلك السنين بذلك البذل والجهد والعناء؟ فسيكون الجواب: لنكون أحرارا غير تابعين ولا مُسْتَعْبَدين لطغاة البشر المعتدين المستدمرين، لنكون مستقلين بسيادتنا، بلا مداهنة ولا تطبيع، وبلا ضياع ولا تضييع.
فكان جهاد هذه الشعوب في كل العالم العربي والإسلامي، أيام محنتها وامتحانها بالاستدمار، كان جهادها من أجل الاستقلال التام للسيادة الوطنية، وكمال الهوية الإسلامية. ففي القرآن الكريم: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الأنفال:26) فكيف نشكر الله على نعمة الحرية والاستقلال؟ كيف نشكر الله على أنه نصرنا وأهلك جيش الاحتلال؟ فيكون الشكر بالقلب على أن النصر من عند الله العزيز الحكيم،
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ ويكون الشكر باللسان بالحمد والتسبيح والذكر والاستغفار. ويكون الشكر العملي بالاستمرار في تحصين الوطن والإعداد والدفاع، والمواصلة في الإصلاح والبناء والإبداع، والبداية فقه الاعتماد على القاعدتين الكبيرتين في بناء المجتمع والدولة والأمة، وهما: قاعدة إقامة الدين، وقاعدة إقامة المدنية. عملا بقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج:41) أقاموا الصلاة، وإقامة الصلاة إقامة الدين، وإيتاء الزكاة بالمعنى الشرعي الشمولي تحقيق بناء المدنية اقتصادا واجتماعا وأخلاقا.
هكذا تكون الوقفات التأملية والتدبرية في آيات الذكريات التاريخية، ومنه الجواب عن السؤال: كيف نستفيد من التاريخ؟ وكيف نحافظ على الرصيد الذي تركه الأجداد؟ ثم كيف نواصل البناء؟ لنخرج من مجرد الشعارات، والأهازيج، والتمنيات، إلى الفعاليات المتمثلة في المشاريع والإنجازات. إن الذين يدرسون التاريخ، ويعتبرون بذكرى الاستقلال والحرية، لا يقفون عند حدود قول بعضهم: ـ كنا كذا.. وفعلنا كذا.. وانتصرنا يوم كذا. وإنما المعتبرون يقولون: {نبني كما كانت أَوَائلنا تبني.. ونُعْلِي البناء فوق ما فعلوا. فآباؤنا ضحوا بما قدموا.. فأين نحن لو أنهم سألوا؟} نعم فأين نحن لو يعود إلينا بن بولعيد وبن مهيدي وعميروش ومراد ديدوش.. وغيرهم، ويسألوننا: ماذا أنجزنا في مدة ثلاث وستين سنة؟؟ إن الحرية والسيادة مرهونتان بمدى الشكر لله على نعمة النصر والتمكين. وهي خمس واجبات بها يتم الشكر الناتج عن فقه العبر والآيات:
أولا: واجب حفظ الأمانة والمكانة والمكتسبات. فإن الذين يتولون المسؤوليات لحفظ أمانات الشهداء يجب أن يكونوا سائرين على منهجية الأنبياء، ومنهم يوسف عليه السلام. ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾.
ثانيا: استثمار الموارد والأموال والقدرات. قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾
ثالثا: واجب إقامة العدل المجتمعي في المعاملات. عملا بقول الله تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾
رابعا: واجب إرساء الفعل الحضاري في الوظائف والخدمات. عملا بقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ﴾.
خامسا: تفعيل مكارم الأخلاق وفعل الخيرات، عملا بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
لماذا كل هذه الآيات؟ لأن الذي نصرنا على الاستعمار وجيوش الاحتلال، وأعطانا الحرية والاستقلال، وبدلنا من بعد خوفنا أمنا، هو سبحانه الذي أنزل هذه الآيات التي لو عملت بها الشعوب المسلمة، لكانت في مستوى الآمال التي رسم معالمها الشهداء والعلماء، هذه الآيات التي لو عمل بها المسلمون منذ ستين سنة لكانوا قادة العالم، ولكان العالم تابعا لهم، ولكن كثيرا من القادة والزعماء، ومن الملوك والأمراء تركوا العمل بهذه الآيات القرآنية، واتبعوا الآراء البشرية، فحدثت نكبات وانتكاسات في الشرق والغرب، وخسر العالم مصالح كثيرة وامتيازات أكثر، عندما هجروا القرآن، وخالفوا شعب الإيمان.
فما هي توصيات هذه الذكرى الثالثة والستين لاستقلال الجزائر: التوصية الأولى: العمل على تحقيق الاستقلال الاقتصادي، ببلوغ الاكتفاء الذاتي لكل ما نحتاجه من الضروريات والحاجيات. التوصية الثانية: العمل على تحقيق الاستقلال العلمي والثقافي باستعمال اللغة العربية في التعليم والتخصصات العلمية، والإدارة، والتعاملات الرسمية، وتوظيفها في البحوث العلمية، والأرشفة. التوصية الثالثة: الثبات على عدم الخنوع لأي ضغوطات أجنبية، ومعالجة القضايا الكبرى المصيرية بالعلم والحكمة والشورى، والمقصود الشورى العلمية وليس الشورى الانطباعية العاطفية.
﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.