سر صالح وإستمرار شريعة الإسلام

الشيخ نــور الدين رزيق/ بحلول شهر رمضان و عبادة الصيام تبدء معه طرح الانشغالات وبعض المسائل المتعلقة بهذا الركن وكلها تدندن حول الحرج والمشقة التي يجدها العبد خلال ممارسة هذه العبادة. ورفع الحرج هو المبدأ الراسخ الذي تنبني عليه أحكام الشريعة وفروعها، وأنه المنهج القويم الذي يحقق اتساقها وانتظامها ويجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وأن …

مارس 10, 2025 - 15:14
 0
سر صالح وإستمرار شريعة الإسلام

الشيخ نــور الدين رزيق/

بحلول شهر رمضان و عبادة الصيام تبدء معه طرح الانشغالات وبعض المسائل المتعلقة بهذا الركن وكلها تدندن حول الحرج والمشقة التي يجدها العبد خلال ممارسة هذه العبادة.
ورفع الحرج هو المبدأ الراسخ الذي تنبني عليه أحكام الشريعة وفروعها، وأنه المنهج القويم الذي يحقق اتساقها وانتظامها ويجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وأن رفع الحرج في المآل هو الضامن لاستمرار الشريعة والتزام الناس بأحكامها، لأنه يعصمهم من الزلل والخلل، ويقيهم من التشدد والغلو.
ثم إن الشارع الحكيم أوجد لمن حلت به هذه المشقة مخرجا منها، وعلى ذلك انبنت قواعد كثيرة، كقاعدة التوبة، والإسلام يجب ما قبله، والكفارات، وضمان المتلفات، ورد المظالم، وما شابهها مما طالب الشارع به العباد.
من أمثلة ذلك:
1- رفع الحرج عن حديث النفس وخواطر القلب:
روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها – يقصدون قوله سبحانه: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} -، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}! بل قولوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير}. قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. فلما قرأها القوم، ذلت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: نعم، {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} قال: نعم، {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: نعم، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال: نعم.
و في الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم».
2- رفع الحرج في الدين عامة و العبادات خاصة:
أمر الله تعالى عباده بالصوم على ما كان يفعله أهل الكتاب من قبل و فيه مشقة قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}(183/البقرة) كتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم, ولا ينكحوا النساءَ شهر رمضان.
عن البراء بن عازب قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر، لم يأكل إلى مثلها، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، وكان يومه ذاك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه فنام ، وجاءت امرأته، فلما رأته نائما قالت: خيبة لك! أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} إلى قوله: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ففرحوا بها فرحا شديدا.
فرفع الحرج و دفع المشقة مبدآن من مبادئء هذه الشريعة الإسلامية السمحاء اهلتها أن تكون صالحة لكل زمان ومكان
قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} وقوله سبحانه وتعالى: {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ونحو ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
روى مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ – وهو موضع بين مكة والمدينة- فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ. فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ. فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ. فَقَالَ: أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ.
فيستفاد من سياق الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سماهم عصاة لسببين:
الأول: أنهم صاموا مع المشقة.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر من أجل أن يقتدوا به، فكأنه أمرهم بالفطر فلم يفعلوا فسماهم عصاة .
قال النووي: وَهَذَا مَحْمُول عَلَى مَنْ تَضَرَّرَ بِالصَّوْمِ . . . وَيُؤَيِّد هذا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ: (إِنَّ النَّاس قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ)، وعلى هذا لا يَكُون الصَّائِم فِي السَّفَر عَاصِيًا إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ اهـ بتصرف.
للمقال بقية…