سَفَرٌ إلى الآخرة..

دعاتنا وواجباتنا نحوهم نفقد بين وقت وآخر أفاضل من الدعاة والمربين والأكاديميين واهل العلم وطلابه، يودعوننا فيتركون فراغا كبيرا؛ خاصة في مجال الدعوة والإصلاح وعمل الخير ونشر الفضائل والقيم نسأل الله ان يتقبلهم عنده في الصالحين وان ينزلهم منازل الصديقين وأن يغفر لهم ويعفو عنهم ويتغمدهم برحماته الواسعات. وقد فقدنا في الأيام الأخيرة الماضية أخوين …

سبتمبر 22, 2025 - 13:23
 0
سَفَرٌ إلى الآخرة..

دعاتنا وواجباتنا نحوهم

نفقد بين وقت وآخر أفاضل من الدعاة والمربين والأكاديميين واهل العلم وطلابه، يودعوننا فيتركون فراغا كبيرا؛ خاصة في مجال الدعوة والإصلاح وعمل الخير ونشر الفضائل والقيم نسأل الله ان يتقبلهم عنده في الصالحين وان ينزلهم منازل الصديقين وأن يغفر لهم ويعفو عنهم ويتغمدهم برحماته الواسعات. وقد فقدنا في الأيام الأخيرة الماضية أخوين كريمين غاليين ـ علم الله ـ وهما الشيخ الداعية المربي المصلح سفيان بن الشيخ الحسين -رحمه الله – وقد كتب عنه فضيلة الاستاذ الشيخ عبد العزيز بن السايب كلمة طيبة ننشرها في هذا الحيز، كما فقدنا أخا آخر وهو باحث وأكاديمي معروف بعلمه واجتهاده وأخلاقه وفضله وهو الدكتور صالح مخناش -رحمات الله عليه- وقد كتب عنه الدكتور عبد الفتاح داودي ابن بلدته ورفيق دربه في التعليم والتربية والدعوة والإصلاح وتهذيب المجتمع ..كتب عنه كلمة ذكر فيها مساره ومحامده وبعض فضله نأمل أن يفيدنا الإخوة دائما بمثل هذه الكلمات التي تدل على الوفاء والعرفان ومحبة المؤمنين لبعضهم وتقديرهم أيضا لبعضهم …
التحرير

عبد العزيز بن سايب/

قُمْتُ صبيحة السبت 6 سبتمبر 2025 فرحا مبتهجا..فقد رأيتُ في المنام سيدي الشيخ السعيد الشهيد البوطي.. وأنا جالس معه في جلسة صفاء.. والشيخ منبسط مبتسم.. في أبهى حُلَّة، وأجمل صورة، وأَصْبَحِ وَجْهٍ.. وهو يكلمني بكل سرور ومباسطة..على غير العادة..فالشيخ له هيبة وصولة..وكنت أكلمه بكل أريحية دون تكلف..وأسأله عن مسائل كثيرة لم نكن نجرأ على الحديث معه فيها..وكان ينادي بأوصاف جميلة وينعتني بعبارة وألقاب مشجعة..
ورأيت أن أهل مصر جعلوا للشيخ البوطي منحوتة على شكل قبر تخرج منه رِجْلٌ، هي رِجل الشيخ..ولم أفهم إلى ماذا ترمز..وقالوا عنه: هذا الشيخ يفسر كلام رب العرش العظيم من فوق سبع سماوات..
فاستيقظت وطعم السعادة ونفحات رَوح الإيمان تغشاني..حالة لم أذق نكهاتها من مدة..
ولم يأت المغرب حتى انقلب الفرح إلى حزنٍ، واللذة إلى توجعٍ..فقد بلغني خبر وفاة الشيخ سفيان ابن الشيخ الحسين..أحد الدعاة المربين الصادقين الصابرين في مدينتي قسنطينة وضواحيها..الذي توفي أمس الجمعة 5 سبتمبر..
والمؤسف أني كنت عند بلوغ الخبر في سفر بعيد عن المدينة لأيام، وقد ضاع مني الهاتف..ففاتني خير كثير وواجب كبير..من الجنازة والتأبين والتعزية..فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
تعود معرفتي بالشيخ سفيان إلى أيام الشباب في الثانوية..فكان له نشاط تعليمي في مسجد الصمد “المقبرة” في وسط المدينة..وأحد روَّاده صديق من مسجد حينا مسجد الفتح بحي سيدي مبروك..فهو من حدثني عن الشيخ..
كان يُقَرِّرُ ويشرح كتبا تخصصية عميقة كبيرة..فدَرَّسَ أُمهات الكتب، مثل البرهان في علوم القرآن للزركشي، الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ومباحث في علوم القران لـ د.صبحي الصالح، وأصول الفقه من كتاب د.وهبة الزحيلي، والأحوال الشخصية لـ د. بدران أبو العينين بدران، والمعاملات المالية من كتاب الفقه الإسلامي وأدلته لـ د.وهبة الزحيلي، ومصطلح الحديث لـ د. عجاج الخطيب، وألفية ابن مالك في النحو والصرف، إلخ..
فكان الشيخ بعيد النظر في نشاطه الدعوي فانكب في دروسه على الجانب العلمي التخصصي..دون إهمال دروس العامة من الوعظ والنصح..
ثم تَعَرَّفْتُ على الشيخ عن قرب بعد عودتي من سوريا وسكنتُ مدينة “الخروب”..فكُنَّا نلتقي في المساجد..مسجد الوفاء..ومسجد الرحمن..ثم جمعني به التدريس في معهد البيضاوي في باب القنطرة..
والشيخ ظاهرة في العمل الدؤوب في كل المجالات التي تخدم الإسلام..دعوة وتدريسا وعملا خيريا..حتى العضلي منها كبناء المساجد وتعميرها..التي بلغت 20 مسجدا..
كما هو من البقية الصالحة العاملة احتسابا لوجه الله تعالى..فلا يتوانى في أي شيء يُطلب منه في تلك المجالات..لا يبتغي إلا وجه ربه والنجاة يوم لقائه..
أما تواضعه فهو القدوة فيه..أذكر مرة كنتُ راجعا من الجامعة فركبتُ الحافلة من “جنان الزيتون” إلى “الخروب”..فلمحتُ الشيخ فاقتربتُ لأجلس معه..فوجدت شابا جالسا معه وهما يتحدثان..فجلست في المقعد وراءه..وإذ بالشيخ طول الطريق الذي يزيد على الساعة ينصحه..عن الصلاة وقراءة القرآن والأذكار والاستقامة..وترك الخبائث والعادات القبيحة..
ثم نزل ذلك الشاب قبل الموقف الأخير..فانتهزت الفرصة وركبت بجانب الشيخ..فرحب بي كثيرا..فقلت له رأيتك تنصح ذلك الشاب..هل تعرفه؟! فقال لي: لا أعرفه..لكن لا بد من نصح هؤلاء الشباب فقد رأيت في جيبه علبة سجائر فاتخذتها فرصة لنصحه..
سبحان الله..لا أظنني أجرأ أو أتشجع لمثل هذا العمل..لكنه احتساب وتواضع الشيخ سفيان..
من تواضعه أنه كان يَستفتي مَنْ هم دَونه شَأْنًا وسِنًّا..بل يصطحب معه بعض السائلين في قضايا معقدة..ذلك أنه يرى الفتوى مسؤوليةً وبراءةً أمام الله جل جلاله..
أما العمل الخيري وإغاثة الملهوفين فهو إمامٌ فيه..كان يشغل باله ويقض مضجعه..أخبرني أحد مرافقيه أنه في وقت صعب مر عليه، فكان الاضطراب والحيرة باديين عليه..فأراد ذلك الشخص أن يُخفف على الشيخ سطوةَ الظرف الذي نزل به وأن لا داعي للخوف والجزع..فإذ بالشيخ يلتفت إليه ويقول له هذا الصباح أخذتُ نوافذ غرفة لأرملة وبنيها للنجار ليُركب فيها الزجاج..على أن أعود له مساءً لنركبه لها..والآن وقد حِيل بيني وبين ذلك..كيف ستمضي تلك المسكينة وأولادها الأيتام الليلةَ في برد قسنطينة دون نوافذ..
سبحان الله الشيخ مشغول البال بأمر الأرملة وأيتامها..وذلك الصديق يحسب الشيخ جزعا لما نزل به هو..
أما حب التعليم والاشتغال بالتدريس فكان قرة عينه لا يكاد يصبر عليه..فكم منعه الأطباء حال الإرهاق ومقدماته وتعب الأعصاب من التدريس وأمروه بالراحة لأشهر متتابعة..لكن الشيخ يستجيب لِماما ثم يعود للتدريس والدعوة..مُعَرِّضًا نفسه للخطر المحدق بصحته..
أخبرني صديق له..أن الشيخ كَوَّنَ في منعطف قَاسٍ من حياته أفواجا من طلبة العلم الشرعي يُدَرِّسُهم شتى العلوم من تفسير وعقيدة وسيرة ولغة..وكوَّن فوجا من الأُميين يعلِّمهم القراءة والكتابة..ولأمر ما نقل هذا الفوج من الأميين إلى مكان آخر بعيد عن الشيخ..فتأسف الشيخ غاية التأسف لهذا..معبرا عن حزنه عليهم..كيف سيدرسون..؟! هل سيُكملون..؟! هنا كُنَّا نشجعهم ونصبر عليهم..لا حول ولا قوة إلا بالله..
سبحان الله ينشغل بأناس لا يعرفهم إلا حديثا..يعلمهم بدائيات القراءة والكتابة..يحزن عليهم ويهتم لإكمالهم تعلمهم..!من يفعل هذا من الدعاة المرموقين أو يصبر عليه..؟ربما عنايتُنا واهتمامُنا بطلابنا الجامعيين لا يرقى لمثل هذا المستوى من التهَمُّمِ والمتابعة..
تاب على يديه وسماع دروسه الكثيرُ..ولا أحسبني مبالغا إن قلت الآلاف..وتلقى العلم عنه المئات من الذكور والإناث..من شتى الطبقات وفي مختلف الأوقات..
أما عن هيئته ولباسه فهو عادي لا يميزه عن غيره..فمن لا يعرفه يظنه من العامة..إلا النور الذي يُشِعُّ من وجهه والسر الذي يَجذب إليه..
لا يهتم للمظاهر ولا للمدح ولا للظهور ولا للتصدر ولا للمناصب ولا للشهادات..مع أنه خريج جامعة الأمير قسم الدعوة..من أوائل الملتحقين بها عند افتتاحها..رغم أنه تجاوز 30 من عمره المبارك..
والشيخ متعدد المواهب..فمع ذلك الجبل من النشاطات الدعوية والتعليمية والعمل الخيري كان يجد مندوحة يؤلف فيها ويكتب..فله أزيد من 40 كتابا..متنوعة المجالات..
كان همه نشر العلم، وإزاحة الشبهات، ونصرة الإسلام..فلا يهتم لحقوق طبع أو جودة الطباعة أو جني مكاسب مادية من وراء كتاباته..
دُقَّ عليَّ باب البيت يوما.. فلمَّا فتحته وجدت الشيخ سفيان..ففرحت واستبشرت.. وعزمت عليه بالدخول..لكنه امتنع متعللا بالأشغال والانشغال..وإنما مر ليسلمني نسخا من كتب حديثة طبعها..”ماذا قدمت أمريكا والغرب، أين الطريق.؟!”، وكتاب “وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور”.. نعم هذا كان همه التبليغ ونقل الفائدة..
أصيب بمرض عضال في الأشهر الأخيرة.. فنحل جسمه.. فكنت أتابع أخباره مع خُلَّص طلابه ومحبيه.. وعزمت على زيارته رغم ظرفه الصحي..لكن قاتلَ اللهُ التسويفَ..كم أضاع عليَّ من الخير والبر.. غفر الله لي.. ورزقني توبةً نصوحًا لا أَنكثُها أبدا..
ماذا عساي أقول عن هذا الرجل العجيب..؟! إلا أنه مَعدنٌ نفيسٌ نَادرٌ..كُتلةُ احتسابٍ وصدقٍ وتَفَانٍ.. يعطي لله..ويحتسب الأجر والمحبة منه فقط..
فلكِ الله يا قسنطينة بعد هذه الثُّلمة في قلعتك..