كنوز الذاكرة العثمانية والتركية: جولة في أعرق مكتبات وأرشيفات إسطنبول وأنقرة
أ. يمينة عبدالي */ في مدينتي إسطنبول وأنقرة، تلتقي عراقة التاريخ بروح الحداثة، وتحضر الذاكرة العثمانية بقوة في مؤسسات ثقافية فريدة، هي في حقيقتها كنوز محفوظة بين جدران من الحبر والورق. ست مكتبات وأرشيفات تقف شاهدة على قرون من الإنتاج المعرفي، محفوظة بعناية ودقة مذهلة. هذه الجولة تستعرض أبرز هذه المؤسسات : مكتبة السليمانية …

أ. يمينة عبدالي */
في مدينتي إسطنبول وأنقرة، تلتقي عراقة التاريخ بروح الحداثة، وتحضر الذاكرة العثمانية بقوة في مؤسسات ثقافية فريدة، هي في حقيقتها كنوز محفوظة بين جدران من الحبر والورق. ست مكتبات وأرشيفات تقف شاهدة على قرون من الإنتاج المعرفي، محفوظة بعناية ودقة مذهلة. هذه الجولة تستعرض أبرز هذه المؤسسات :
مكتبة السليمانية للمخطوطات:
Süleymaniye Yazma Eser Kütüphanesi
تتربع مكتبة السليمانية للمخطوطات وسط المجمع المعماري الذي بناه المعمار سنان بأمر من السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر، ولكن المكتبة بوضعها الحالي ظهرت في القرن الثامن عشر كمشروع لجمع وإحياء تراث المخطوطات الموزعة في إسطنبول. تعدّ من أغنى المكتبات الإسلامية في العالم من حيث عدد المخطوطات وجودتها. تضم أكثر من 100,000 مجلد مخطوط، مكتوب باللغات العربية والتركية العثمانية والفارسية، وتشمل علوم الدين، والطب، والرياضيات، والفلك، والآداب.
وفي العصر الرقمي، قامت الحكومة التركية برقمنة الآلاف من هذه المخطوطات، وجعلتها متاحة للباحثين عبر موقعها الإلكتروني الرسمي suleymaniye.yek.gov.tr.
أرشيف المحكمة الشرعية ومشيخة الإسلام
İstanbul Müftülüğü Şer’iye Sicilleri ve Meşihat Arşivi
يضم آلاف السجلات الشرعية من القرن السادس عشر حتى أوائل القرن العشرين. ويُعد هذا الأرشيف من أغنى المصادر لدراسة الحياة اليومية والاجتماعية والدينية في الدولة العثمانية، إذ يحتوي على سجلات المحاكم الشرعية من إسطنبول وغيرها من المدن، إلى جانب أرشيف المشيخة الإسلامية. حيث يعود تاريخ تأسيسه الرسمي إلى أواخر القرن التاسع عشر، لكنه يحتوي على وثائق تمتد إلى أكثر من 400 سنة، ما بين سجلات عقود الزواج والطلاق، والمعاملات العقارية، والوصايا، والفتاوى.
لا توجد أرقام دقيقة منشورة لعدد الوثائق، لكنها تُقدّر بعشرات الآلاف من السجلات الأصلية، وقد تم رقمنة عدد كبير منها ضمن مشروع أرشفة متكامل بالتعاون مع مكتبات إيسام ISAM”.”
مكتبة بيازيد الحكومية:
Beyazıt Devlet Kütüphanesi
تأسست رسميًا يوم 25 يونيو 1884 وتضم حاليًا آلاف المخطوطات والكتب النادرة. وهي أول مكتبة وطنية عامة في تاريخ الدولة العثمانية، أنشئت في مبنى الإِمَارَة التابع لجامع بيازيد بعد ترميمه على يد المعماري “أوهانس كالفا”. بدأت بمجموعة أولية من الكتب التي جمعت من المساجد والزوايا، وبلغ عدد الكتب فيها عام 1888 حوالي 7,068 مجلدًا. أما اليوم فقد أصبحت من أهم المراكز الثقافية في إسطنبول، بما تضمه من آلاف المخطوطات والكتب المطبوعة في مختلف العلوم. وأيضا تقدم المكتبة خدمات رقمية حديثة، وقاعات قراءة مريحة، وتُعتبر وجهة رئيسية للباحثين المحليين والدوليين.
مكتبة نوادر جامعة إسطنبول:
İstanbul Üniversitesi Nadir Eserler Kütüphanesi
تقع داخل الحرم الجامعي العريق، وفي مبنى شيّده المعماري كمال الدين بك عام 1912 ليكون مدرسة للقضاء، حيث تأسست مكتبة النوادر بعد تحويل دار الفنون إلى جامعة إسطنبول. وفتحت أبوابها للقراء في 1 ديسمبر 1924، ومنذ ذلك الحين وهي تحتفظ بواحدة من أندر مجموعات المخطوطات الجامعية.
تضم المكتبة حوالي 20,000 مخطوطة، تتنوع بين العربية والتركية والفارسية، وتشمل علوم الدين، والأدب، والفلسفة، والعلوم الطبيعية. وقد رُقمن جزء كبير منها، لتصبح متاحة على الإنترنت للباحثين المهتمين حول العالم.
مكتبة الأمة:
Millet Kütüphanesi
افتُتحت يوم 20 فبراير 2020، تقع في أنقرة، وتحديدًا داخل المجمع الرئاسي في بش تبه، افتتحت مكتبة الأمة لتكون من أكبر وأحدث المكتبات في تركيا والعالم. بدأت الأعمال الإنشائية عام 2016، وتم الافتتاح الرسمي يوم 20 فبراير 2020 بحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
المكتبة تحتوي على أكثر من 4 ملايين كتاب بـ134 لغة، إضافة إلى 120 مليون مقالة وتقارير إلكترونية. وهي مفتوحة على مدار 24 ساعة يوميًا، وتوفر خدمات متكاملة، من قاعات القراءة المجهزة، إلى مناطق للأطفال، ومتاحف وثائقية، ومراكز تقنية حديثة.
الأرشيف العثماني لرئاسة الجمهورية:
Cumhurbaşkanlığı Osmanlı Arşivi
يعود تأسيسه إلى عام 1846.هو الذاكرة الرسمية للدولة العثمانية، وأحد أضخم الأرشيفات في العالم. بدأت نواته عام 1846 في عهد السلطان عبد المجيد الأول، تحت اسم “خزانة الأوراق”، ثم تطور تدريجيًا ليصبح اليوم ضمن إدارة رئاسة الجمهورية التركية.
يضم أكثر من 90 مليون وثيقة أصلية تغطي فترة حكم الدولة العثمانية الممتدة لستة قرون. وتشمل الوثائق المراسلات، والقرارات، والملفات العسكرية، والإدارية، والمالية، وسجلات الأوقاف، والضرائب، والهجرات، وغيرها من الموضوعات التي تهم المؤرخين والباحثين في مختلف التخصصات. وقد خضع الأرشيف لعمليات رقمنة شاملة، ما سمح بوصول أعداد هائلة من الباحثين إلى مواده بسهولة عبر شبكة الإنترنت.
أخيرا فإن كل مؤسسة من هذه المؤسسات تُجسد جانبًا من هوية تركيا العلمية والثقافية، وتمثل رافدًا لا غنى عنه للباحثين والمؤرخين. وما يميزها ليس فقط قدمها أو ضخامة مجموعاتها، بل كذلك حرصها على الانتقال الذكي نحو العالم الرقمي، لتظل المعرفة متاحة، والتاريخ حاضرًا في كل عصر.