تاريخ الهجرة النبوية إعداد الأمة الإنسانية وبناء الدولة الإسلامية

الشيخ محمد مكركب أبران نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/ تاريخ الهجرة النبوية يذكرنا بحقيقة لامناص منها، وهي أنه لاحياة ولا مستقبل للإنسانية إلا بالأصلين الكبيرين من أصول العدالة الاجتماعية لإقامة الحياة الإنسانية على هذه الأرض. الأصل الأول الوحي: المتمثل في القرآن الكريم، لينجو العالم البشري عامة، والإسلاميُّ خاصة، من المعاناة والانهزامات، وذلك إذا هجر …

يونيو 30, 2025 - 12:34
 0
تاريخ الهجرة النبوية إعداد الأمة الإنسانية وبناء الدولة الإسلامية

الشيخ محمد مكركب أبران
نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/

تاريخ الهجرة النبوية يذكرنا بحقيقة لامناص منها، وهي أنه لاحياة ولا مستقبل للإنسانية إلا بالأصلين الكبيرين من أصول العدالة الاجتماعية لإقامة الحياة الإنسانية على هذه الأرض. الأصل الأول الوحي: المتمثل في القرآن الكريم، لينجو العالم البشري عامة، والإسلاميُّ خاصة، من المعاناة والانهزامات، وذلك إذا هجر المسلمون الخلافات التي مزقت أفكارهم، والصراعات التي فرقت صفوفهم، والأصل الثاني السنة: المتمثلة في طريقة التدين: من الدعوة والتربية والسياسة والأخلاق، والجهاد، تلك الطريقة التي سنها خاتم النبيين، عليه الصلاة والسلام، والذي قال له ربه:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 105] فبهذين الأصلين تتحقق الرحمة للعالمين.

إننا نقرأ من خلال تاريخ الهجرة النبوية كيف أعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس، ونطقت بذلك أحداثُ الهجرة النبوية وهي تنادي المسلمين الذين هم على أديم هذه الأرض، بأن يتأملوا ذلك البناء العظيم، الذي بناه رسول عظيم، بكتاب عظيم، وقد تم التخطيط لذلك البناء في زمن ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة، ذلك الزمن الذي يعرف بالعهد المكي، من: 13 قبل الهجرة إلى السنة الأولى هجرية.
ثم ليتعلم المسلمون كيف نقل الرسول محمد النبي الأمي الأمة العربية من ظلام الجاهلية وظلماتها إلى الإسلام ونوره، ومن فتنة القبائل المتصارعة، والعصبيات المتناحرة، إلى رحمة الشريعة الإسلامية وعدالتها، وإلى الأخوة الدينية ووحدتها واتحادها.﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ (آل عمران:103) وكثير من الشعوب هي الآن على شفا حفرة من الأخطار.
نعم، إن تاريخ الهجرة النبوية يحوي في أحداثه الخريطة السياسية، التي لو تدبرها المسلمون، لعاشوا مجد الإسلام، وسيادة الإيمان، وحضارة الإحسان، ولكانوا أئمة العالم في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليقودوا البشرية إلى حيث الأمن والأمان.
أليس المسلمون في هذا الزمان (1447ه) هم أشبه بما كان عليه الحال قبل الهجرة في مكة؟ بين الفتن، والتضييق، والحصار، والحروب والدمار؟؟ أليس بالإمكان استثمار هذه الأزمات، والحروب، والنكبات، وتحويلها إلى عزائم وطاقات، كما فعل الصحابة في عهد المحنة، لإعداد الهجرة الفكرية السياسية المتجددة، التي قوامها الخطة الاستراتيجية النبوية، كما حقق الصحابة الهجرة التاريخية بنجاح، ولكن فاسألوا أهل الذكر إن أردتم الاعتبار، والاستفادة من توظيف اجتهاد وجهاد المهاجرين والأنصار، ومنه الأركان السياسية الاجتماعية التي بنى بها الرسول عليه الصلاة والسلام، الدولة في المدينة المنورة. وأعني بالأركان مبادئ المنهجية النبوية الإصلاحية:
الركن الأول: المرجعية الدينية التي تمثلت في بناء المسجد، فآه، ثم آه، لو يتحد علماء الإسلام حول قرآنهم وسنة نبيهم، ويوحدون جهودهم، نحو واقعهم ومستقبلهم، ويخرجون من العناد العقيم، والجدال الغشيم.
ثم ألف آه وآه لو يجتمع أمراء المسلمين وعلماؤهم في وحدة دينية، وسياسية، ولكن أين هم من حقائق الهجرة وآياتها؟ وأين هم من دعوة الإسلام ومقتضياتها؟.
والركن الثاني: الوحدة الأخوية التي تمثلت يومها في الإخاء، بين الأوس والخزرج، وكل المنتمين للمجتمع المدني، كالإخاء بين سلمان وأبي الدرداء، وبين عبد الرحمان بن عوف وسعد بن الربيع، وعمر بن الخطاب، وعتبان بن مالك، وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت. وغيرهم.
والركن الثالث: الوثيقة المدنية التي ترمز إلى وضع النقاط على الحروف، في توحيد إدارة الدولة، على أن كل المنتمين لدولة المدينة يكونون أمة واحدة في الانقياد لإمام واحد، هو الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. لا خلاف، ولا خروج عن الطاعة. قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار، وَادَعَ فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم، منها: {بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس..} (سيرة ابن هشام.1/501)
الركن الرابع: إعداد مؤسسة الجيش، أو القوة الدفاعية الموحدة. وفي القرآن: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.﴾ (البقرة:190)
الركن الخامس: الذي اعتمده الرسول في بناء الدولة العظيمة في المدينة، والوقوف في وجه أطماع كل الأعداء: اعتماد قدرات الشباب، نعم الطاقة الشبابية، مع المشاركة المتكاملة بين الرجال والنساء، الكبار والصغار. وتنقية المرافق ودواليب الدولة من المندسين والمخترقين والجواسيس، قال الله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ (آل عمران:118) والعمل على استقلال السيادة استقلالا تاما، بقطع العلاقات مع الأعداء الماكرين، وعدم الركون إلى الظالمين.قال الله تعالى: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ (المائدة:51) فقد كانت الغاية بناء المجتمع الإسلامي الطاهر الخالص، بتنقيته من الشرك وأهله، فبغير التطهير لايحصل الغيير.
الركن السادس: حسن التوكل على الله عن ثقة ويقين. قال الله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾ (التوبة:40) ومما يُستفاد من أحداث الهجرة: الدراسة والتخطيط والتنظيم.
فقد هيأ الرسول الراحلة، والرفيق، والدليل، وكلَّف من يبيت مكانه ليرد الأمانات إلى أهلها، وعين من ينقل الزاد، ومن يقوم بالاتصالات، ومن يُؤَمِّنُ الطريق، وبث العيون الأمينة، والآذان الواعية. فالأهداف والمقاصد لا تتحقق بالتمنيات، ولا بالفوضى والارتجالات، وإنما بالاجتهاد والإعداد والدراسات.
ومن الدروس المستفادة من الهجرة أن النجاح في المشاريع العظيمة، خصوصا في مشروع إخراج أمة من تخلف وجاهلية وانحطاط، وإنقاذها من بين مخالب وأنياب الوحوش المتكالبة عليها، يقتضي القناطير المقنطرة من الصبر والتضحية بالمال والنفس، وفراق الأحبة.
يقف النبي عليه الصلاة والسلام، ليلة الهجرة، ويخاطب مكة موطنه الذي تربى فيه وأحبه، قائلا: {مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ} (الترمذي:3926) ولكنه خرج وهاجر تنفيذا لأمر الله عز وجل، والصحابة تركوا الديار والأموال نصرة لله ورسوله.
هل يستطيع الحكام، والعلماء، والأمراء، في عصرنا هذا أن يضحوا بالمال والجاه ومناصب الراحة والمتعة، ويهاجرون في سياحة الجهاد في وقفة رجولية قوية بالتعاون والإخلاص لله تعالى. قال الله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحشر:8)