جسد فانٍ وذات عارفة وحية ومشروع مستمر فينا

خريف سنة 1997 من شهر سبتمبر كان مميزا لي بدخولي الأول لمدرجات جامعة أبي بكر بلقايد بتلمسان في تخصص علم الاجتماع، والذي كان قد فتحه وأسسه المرحوم الأستاذ بشير محمد ورفاقه أول مرة في تلك الفترة بهذه الجامعة، أتذكر حينذاك أن أول الأساتذة الذين التقيت بهم كان المرحوم،بابتسامته ولبقاته وحسه المرهف، كان متفاعلا معي ومع …

مارس 22, 2025 - 20:52
 0
جسد فانٍ وذات عارفة وحية ومشروع مستمر فينا

خريف سنة 1997 من شهر سبتمبر كان مميزا لي بدخولي الأول لمدرجات جامعة أبي بكر بلقايد بتلمسان في تخصص علم الاجتماع، والذي كان قد فتحه وأسسه المرحوم الأستاذ بشير محمد ورفاقه أول مرة في تلك الفترة بهذه الجامعة، أتذكر حينذاك أن أول الأساتذة الذين التقيت بهم كان المرحوم،بابتسامته ولبقاته وحسه المرهف، كان متفاعلا معي ومع جميع الطلبة، لم نشعر أنه غريبا عنا يوما، كان متواضعا بمقامه بيننا، كنا حينذاك جددا لا معرفة لنا بالجامعة وببرامج علم الاجتماع، تكلّف المرحوم رفقة ثلة من زملاءه أمثال الأستاذ مزوار بلخضر والأستاذ شريف مصطفى وغيرهم بسماعنا وبالإجابة بإمعان عن مشاكلنا، توطدت علاقاتنا أكثر به، بدأ معها شعورنا يسمو مع إنسانيته، مع تقدمنا في السنة الأولى، كان لنا الأخ والرفيق الدائم قبل الأستاذ، كنّا جميعا نستمتع بمحاضراته، كان المدرج دائم الامتلاء، لا تجد مكان شاغرا، لقد ملكنا وجذبنا بحسه المعرفي وأثّر فينا بساطته وثقافته التي كان يدغدغ بها قرائحنا وآهاتنا، كان ذلك السوسيولوجي اليومي القريب من الشعب ومن مشاكله وتناقضاته وحياته في عمومها، كان يستحضر من هذا المجتمع في كل أمثلته وعباراته، كان بارعا في انتقاء الكلمات الهادفة التي تصل وتخرج من رحم هذا الشعب، لم يكن أبدا متقاعدا ومباعدا لهذا المجتمع، كان ابنه البار اللصيق بمعروفه، وهو الفعل والسلوك المفتقد اليومبينالعديد من رواد علم الاجتماع ببلادنا.

مقياس الدراسات السوسيولوجية

أتذكر أن أستاذنا الكبير المرحوم بشير محمد كان في مقياس الدراسات السوسيولوجية للمؤسسة الجزائرية موسم 1999 – 2000، وهي السنة نفسها التي ناقش فيها المرحوم أطروحة دكتوراه دولة بعنوان “إشكالية الانتقال الثقافي من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي: دراسة حالة عمال المؤسسة الوطنية للصناعات النسيجية الحريرية (مركب الحرير بتلمسان)”، تحت إشراف الأستاذ الدكتور حينذاك شايف عكاشة.
لقد كان هذا المقياس الأفضل عندي حينذاك إلى جانب مقاييس أخرى برع فيها أساتذة نجلّهم ونقدرهم وسنبقى على ذلك بالدوام والأبد أمثال الأستاذ الدكتور مزوار بلخضر، الذي نتمنى له كل الصحة والعافية وطول العمر، لقد تعلمنا صراحة في تلك الفترة معنى السوسيولوجيا في ميدانها ومحليتها وكيف نلامس بالتنظير الواقع؟، وكان الأستاذ بشير محمد إلى جانب ثلة من رواد سوسيولوجيا الرعيل الأول خصوصا ممن ملكتهم إشكالية ذلك الانتقال الثقافي الذي صاحب الثورة الصناعية، وكيف تأثر مساره ببنية وذهينات الفرد الجزائري؟، ففي إطار طرح ثقافي في البنيات الاجتماعية والرمزية والذهنية للمجتمع الجزائري سار الأستاذ بشير محمد على خطى رفقائه وأساتذته من الرعيل الأول أمثال المرحوم جمال غريد والمرحوم علي الكنز، وسعيد شيخي وجيلالي ليابس عليهم رحمة الله جميعا.
لقد شغل كل هؤلاء مسألة الانتقال الذي بدأ في الجزائر المستقلة، والذي كان يستهدف في مستواه التنموي في مجال الصناعة على تبيئة هذا المشروع بمجتمع جزائري له خصائصه وميزاته واختلافاته وتناقضاته، ومن هذا الاختلاف كان الطرح النظري الثقافي الذي اشتغل عليه هؤلاء، لإدراكهم الإشكالية العميقة بين المستوى النظري والتجريدي لمشروع الصناعة حينذاك ونفاذه إلى واقع مجتمع له خصوصياته وتقاليده وعاداته المختلفة.
لقد حمل هذا المشروع العام، مشروع ثقافي حداثي جاء من الغرب أبو الحداثة، وأريد تطبيقه في إطار سياسة اشتراكية للدولة الوطنية حينذاك،كانت أهدافها ومساعيها الانتقال بالمجتمع الجزائري من بنيته التقليدية و الزراعية والريفية وذهنياته التي تحيل إلى جانب كبير من التخلف والمحلية حسب رؤيتها إلى تثاقف يمكنه أن يؤدي إلى التقدم والعصرنة والتطور المصاحب لهذا التوطين الصناعي الغربي.
كان يرى الساسة وصناع القرار حسب الأستاذ بشير محمد ورفاقه وأساتذته من الرعيل الأول، أن ذلك كان يمكن أن يتحقق في الجزائر المستقلة،فرغم ما توفر هيكليا وبنيويا في هذه المرحلة في إطار الثورات الثلاث خصوصا منها الصناعية من مركبات في الشرق والغرب والوسط، إلا أن الغائب في هذا الانتقال حسب الأستاذ بشير وآخرون أن كان الإنسان الجزائري المغيب، والذي لم تفكك جميع أنساقه وذهنياته وثقافته وتناقضاته، وحتى لم تٌفهم بما يمكن من تحضيره وتجهيزه لهذا الانتقال، لذلك انتهى هذا المشروع ومن خلاله الجزائر إلى العديد من المطبات والمشكلات ومظاهر الفشل، وإلى تصادم وصراع ثقافي بين ثقافتين وبنيتين مختلفتين ثقافيا واجتماعيا ورمزيا وتمثلاتيا وحتى ممارساتيا ونظرة للحياة.

حال الانتقال الثقافي

لقد كانت هذه الإشكاليات الهم الأكبر والبارز في كل أعمال أستاذنا بشير محمد، لقد شغله حال الانتقال الثقافي في جزائر ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وكيف تسارعت الخطى في إطار الدولة الوطنية للتأسيس لثورات الثلاث، بدأ انشغاله بهذا الانتقال الثقافي بالجزائر مبكرا، إلا أن أول ثمار ذلك الأكاديمية والعميقة تنظيريا كان مع أطروحته في الدكتوراه، التي أشرنا إليها سلفا، ولنضع المتلقي لهذا النص ونعرفه أكثر بأستاذنا بشير محمد فهو ابن قرية الفحول، القرية الزراعية بامتياز، التي كان لها تأثيرها اللامتناهي في فكره وثقافته وشخصه، إلى جانب انتقاله إلى تلمسان، التي وجد فيها المدينة الكبيرة نسبيا، التي اختصّت فترة سبعينيات القرن الماضي بالعديد من المشروعات الصناعية من قبيل مركب الحرير، وما كان لهذا التوطين من انتقال وتحول في البنية المجتمعية بهذه المنطقة الزراعية أساسا.
إذن، هذه البنية التي تتأسس في نسقها المعيشي والاقتصادي على الزراعة بشكل أساس إلى جانب الرعي في سهوبها وأريافها، وجدت نفسها في فترة وجيزة أمام مشروعات تنموية صناعية كبيرة وهادفة للانتقال بالمجتمع المحلي بالجزائر من ذهنياته وثقافته الزراعية التقليدية والرعوية والريفية إلى ثقافة صناعية عصرية ورأسمالية وافدة، تحمل معها معالم وقيم الحداثة الغربية والتقدم وغيره، لقد كانت هذه الثنائيات هي لب الإشكالية وموجهها، والتي اشتغل عليها المرحوم الأستاذ بشير محمد وشغلته منذ تلك الفترة وإلى آخر أيامه حياته،قبل أن يتخطف جسده الموت في غرة رمضان من هذا الشهر الكريم لهذه السنة الجارية من عام 2025.
عندما تعود إلى كل أعماله ستجد براديغمات عديدة من قبيل المجتمع المحلي الزراعي بالخصوص بثقافته وبنياته التقليدية وذهنياته ومشكلاته، إلى جانب المجتمع الحضري وخصوصياته، في مقابل الصناعة ومشروعها، وكذا الحداثة الغربية ومحمولها، كل هذا كان مكون أساسي للاشتغال المعرفي في فكر وقلم ولسان هذا الرجل، فلم يتخلف يوما ولم يستكن له جفن بتذكيره الدائم وحديثه المستمر بعلم ومعرفة وتنظير لإشكاليات تنمية بلده الجزائر، وكيف كان يمكن لأكبر مشروع صناعي حينذاك بالدول المغاربية أن ينجح لو تم التجهيز والتخطيط والتحضير له مسبقا، مع استحضار في ذلك للنموذج الاجتماعي الثقافي المحلي المطبوع بالخصوصيات الثقافية المتجذرة في ذهنيات والإنسان والعامل الجزائري وعدم القفز عليها، وكان من شأن ذلك لو أخذ بعين الجدّ والاعتبار تحقيق الانتقال بهذا الإنسان الجزائري إلى ذلك،ومواكبته تحول وانتقال عددا من المجتمعات المشابهة له في بنياتها ووضعها آنذاك.

تراث علمي ومعرفي

في سبيل كل هذه المقاربات في إطار الثنائية النظرية والتحليل الثقافي والسوسيولوجي للمجتمع الجزائري خلف المرحوم بشير محمد تراثا علميا ومعرفيا يبقى نابضا وشاغلا ومستمرا في حضوره الدائم بمقرراتنا ومدرجات جامعاتنا وبين ذاكرة وحاضر ومستقبل تفكيرنا وتفكير المثقفين والطلبة والمهتمين بسوسيولوجيا الجزائر، لقد كان له الفضل في ترسيم مقياس دراسات حول سوسيولوجيا العمل في الجزائر وإغناء محتواه بأعمال رزينة وثقيلة رفعت الغبار عن أعلام جزائرية كثيرة كادت تنسى، بوبها وصنف أعمالها في رعيل أول والثاني واستحضرها دائما في تحليلاته، فأعطى بها وفيها لكل واحد من هؤلاء حقه وأبرز رؤيته، وكان لنا نحن من خلال هذه الأعمال الرفيق والمعلم والمرجع الدائم الحضور بالتحليلات والطروحات، التي تبقى معها لمسة هذا المفكر الجزائري صامدة مستمرة لن تنتهي ولن تموت بإذنه تعالى، وسنبقى معها نحن حريصين على التبليغ والتوصيل بثقافة وفكر وتنظير هذا الرجل الفذ في مجال وزمان مهم من تاريخ وسوسيولوجيا الجزائر الحبيبة.

نعم المعلم والموجه والأستاذ

في الأخير، الأستاذ بشير محمد درس وتدارس ودرّس ونظّر، فكان نعم المعلم والموجه والأستاذ والإنسان المفكر، لم يمت ولن يموت فينا، فرجل بهذه الأوصاف والأوسام سيستمر فينا، سنخلد محياه وفكره إلى أبد الآبدين، وسنذكر ونذّكر دوما بأثره وصدقاته الجارية في تخريج مئات الطلبة، وفي تنوير أجيال من هؤلاء ومن الباحثين بجزء مهم من محيا وسوسيولوجيا مجتمعنا وبلادنا الغالية، رحمه الله جسدا وأدام روحه العارفة فينا وبيننا.

الأستاذ الدكتور بووشمة الهادي، خريج سوسيولوجيا المرحوم، جامعة تامنغست