خميسة

أ.د. زبيدة الطيب/ خميسة اسم تردد أمامي كثيرا من قبل بعض المجاهدين ومن عاصروا ثورة التحرير المباركة، لا أدري من تكون لكنني عرفت شيئا واحدا هو ما كان يكثر الحديث عنه أمامي، وهي أنها امرأة شجاعة ( فحلة) عذبها الاستعمار كثيرا. وكانت رفيقة أحدهم في رحلة التعذيب هذه. وهو من كان يروي عنها أنها كانت …

يوليو 8, 2025 - 12:39
 0
خميسة

أ.د. زبيدة الطيب/

خميسة اسم تردد أمامي كثيرا من قبل بعض المجاهدين ومن عاصروا ثورة التحرير المباركة، لا أدري من تكون لكنني عرفت شيئا واحدا هو ما كان يكثر الحديث عنه أمامي، وهي أنها امرأة شجاعة ( فحلة) عذبها الاستعمار كثيرا. وكانت رفيقة أحدهم في رحلة التعذيب هذه. وهو من كان يروي عنها أنها كانت محتجزة في إحدى غرف التعذيب إلى جانب الغرفة التي كان يحتجز فيها هو، يفصل بينهما حائط من لوح خفيف. يقول: حين كانوا يأخذونني إلى التعذيب ثم يعيدونني إلى تلك الغرفة، كانت تضع فمها في ثقب في ذلك الحائط وتقول لي: «قريت؟» أي هل أقررت واعترفت؟ قال فأقول لها بكلمات متثاقلة: ما قريتش؛ أي لم أعترف. قال فتقول لي: موت. أي مت. والتي تعني اصمد ومت رجلا شريفا شامخا.
وكنت أسأل صاحب الرواية: هل عرفتها من تكون؟ هل رأيتها؟ هل حاولت التعرف عليها؟ لكنه لم يفعل ذلك ولم يعرفها ولم يتعرف عليها. لا أدري ما هي مبرراته ولم أحاول أن أعرف ذلك (على الأقل في فترة حياته قبل انتقاله إلى جوار ربه) لكنه ظل يقول لي إن كلمة: مُوتْ. ونبرة صوتها القوية الشامخة لم يغادر مسمعي إلى اليوم.
كنت أسمع في تلك الآونة أغنية ثورية حملت عنوان خميسة؛ وفيها ما يظهر وكأن خميسة استسلمت واعترفت بأمر ما، والأغنية تضمنت عتبا شديدا وإحساسا كبيرا بالصدمة والخذلان. تقول الأغنية باللهجة العامية الجزائرية: كي أَدَّاوْنا لْلَسِيتي(la cite ولعله المكان الذي كان يجري فيه التعذيب. ) يا خُوتي الضرب والتريسيتي ( الكهرباء) يا خميسة علاش قريتي … يا خوتي لبست قُومِيَّة( ثلاث نقاط فوق حرف القاف؛ أي صارت عميلة) هذه الأغنية كانت تؤثر في كثيرا حتى مع صغري كنت دائما أرددها ولا أزال.
هل خميسة التي كثر الحديث عنها من قبل أحد المجاهدين، والذي شاركته رحلة التعذيب هي نفسها خميسة التي شملتها الأغنية؟ أم أن الشخصيتين تختلفان؟ والجواب عندي أنني لا أتناول الموضوع من جانبه التاريخي لأذهب نحو البحث والتدقيق؛ بقدر ما أن المسألة عندي رمزية تحمل معاني ومرموزات جديرة بالاعتبار، وهي أنه سواء اختلفت الشخصيتان أم كانت المعنية واحدة؛ وسواء أقرت خميسة واعترفت أم كانت تلك كلمات من وحي مؤلف الأغنية؛ وهو يريد أن يبعث برسالة خاصة إلى الحاضنة الشعبية للثورة التحريرية. فإن خميسة الجزائرية لا يضيرها أنها ضعفت في لحظة من الزمن تحت وطأة التعذيب. وأن خميسة هي اسم لنساء كثيرات قدمن لهذا الوطن الشباب والحياة والروح. وخميسة في نهاية المطاف هي الحب والوفاء والإخلاص والتضحية التي كتبتها كل المجاهدات والشهيدات.
وخميسة هي التي نراها اليوم في غزة ،وهي تواجه الموت والدمار والجوع وفقد الولد والزوج والأحبة بالجملة؛ خميسة غزة هي آلاء النجار وغيرها من الأسماء التي يقف العالم اليوم مشدوها أمام صبرها وشجاعتها التي لم يعرف لها التاريخ الحديث وربما تاريخ البشرية كلها مثيلا، وهي تثق أن هذا الكم الباهظ من التضحيات والصبر سيقابله أجر ونصر وما ذلك على الله بعزيز.