إعادة الاعتبار للبعد القيمي الأخلاقي في منظومة التعليم الجامعي: مقاربة سوسيودينية

د. حسان بوسرسوب/ تُعدّ الجامعة الجزائرية اليوم أحد أهم الفضاءات التي يُفترض أن تتقاطع فيها وظائف إنتاج المعرفة وتكوين الإنسان وخدمة المجتمع، غير أنّ الواقع يكشف عن أزمات متراكمة، تتراوح بين نقائص هيكلية وبيداغوجية من جهة، وأخرى قيمية وثقافية من جهة ثانية. وإذا كان الإصلاح المادي والتقني شرطًا أساسيًا، فإنّ الإقلاع العلمي والحضاري لا يتحقق …

أكتوبر 6, 2025 - 13:55
 0
إعادة الاعتبار للبعد القيمي الأخلاقي في منظومة التعليم الجامعي: مقاربة سوسيودينية

د. حسان بوسرسوب/

تُعدّ الجامعة الجزائرية اليوم أحد أهم الفضاءات التي يُفترض أن تتقاطع فيها وظائف إنتاج المعرفة وتكوين الإنسان وخدمة المجتمع، غير أنّ الواقع يكشف عن أزمات متراكمة، تتراوح بين نقائص هيكلية وبيداغوجية من جهة، وأخرى قيمية وثقافية من جهة ثانية. وإذا كان الإصلاح المادي والتقني شرطًا أساسيًا، فإنّ الإقلاع العلمي والحضاري لا يتحقق من دون إعادة الاعتبار للبعد القيمي– الأخلاقي الذي يُشكّل قاعدة النهضة المعرفية عبر التاريخ. واستنادًا إلى ما سبق، ومن منظور علم الاجتماع الديني، يمكن القول أنّ الجامعة فقدت جزءًا مهمًا من رسالتها التربوية لصالح الدور الوظيفي الضيق المتعلق بالتكوين والتشغيل، وهو ما أضعف ثقافة الالتزام والمسؤولية لدى الطلبة والأساتذة على حدّ سواء. هذا الوضع انعكس في أشكال عدة، أبرزها: تفشي ظاهرة الغش الأكاديمي، ضعف النزاهة العلمية، تراجع قيمة البحث الأصيل لصالح النقل والتكرار، وتنامي الفردانية والنزعة النفعية على حساب الروح الجماعية.
وإنّ أبرز النقائص التي تعاني منها منظومة التعليم العالي لا تقتصر على البرامج أو المناهج أو الهياكل، بل تمتد إلى تآكل المنظومة القيمية داخل الحرم الجامعي. فالمعاملات اليومية تشهد ضعف الانضباط، وهشاشة ثقافة الحوار، وغياب القدوة، وتنامي السلوكيات غير الأكاديمية التي تسيء لصورة الجامعة كمؤسسة علمية وحضارية. وبناءً عليه، نحو مقاربة قيميّة في الإصلاح: تصحيح الوضع الجامعي، ودفعه نحو الإقلاع العلمي– الحضاري، يقتضي إعادة إدماج البعد القيمي في سياسات التعليم العالي، من خلال مقاربة سوسيودينية توازن بين المعارف التقنية والإنسانية. ويمكن تلخيص أهم معالم هذا التوجه فيما يلي:

1. ترسيخ النزاهة العلمية حيث لا يكفي سنّ القوانين لمكافحة السرقة الفكرية، بل ينبغي غرس قيم الأمانة والصدق في نفوس الطلبة والباحثين عبر التربية المستمرة، واستحضار البعد الديني الذي يربط العلم بالأخلاق.

2. تأهيل الأستاذ الجامعي كقدوة فالأستاذ ليس ناقلًا للمعرفة فحسب، بل مربٍّ وصانع لشخصية الطالب. من هنا، فإنّ الاستثمار في تكوينه القيمي والأخلاقي، إلى جانب تكوينه البيداغوجي والعلمي، يشكّل ركيزة للإصلاح.

3. إدماج التربية القيمية في المناهج بمعنى إدراج وحدات أو مقاربات تعليمية تعزّز التفكير النقدي، وتبني ثقافة الحوار، وتربط بين العلوم الحديثة والأسس القيمية للمجتمع الجزائري، بعيدًا عن التلقين أو الإيديولوجيا الضيقة.

4. تعزيز المسؤولية المجتمعية للجامعة فالجامعة مطالبة بأن تخرج من انغلاقها، وأن تتحول إلى فاعل أساسي في نشر القيم في المجتمع، عبر الندوات، الحملات التحسيسية، والشراكات مع المؤسسات. فإشعاعها لا يتحقق بالبحوث فقط، بل أيضًا بدورها التنويري.

5. استعادة ثقافة الانضباط احترام الوقت، العمل الجماعي، الالتزام بالقوانين الداخلية، كلّها ممارسات قيمية بقدر ما هي تنظيمية. ومن دونها يستحيل بناء بيئة جامعية منتجة للعلم.
وعليه، فإنّ أي مشروع لإصلاح الجامعة الجزائرية يظل رهينًا بقدرتها على الجمع بين تحديث المناهج والهياكل من جهة، واستعادة رسالتها القيمية من جهة أخرى، لتكون بحق فضاءً منتجًا للعلم ومولّدًا للأمل الحضاري في جزائر جديدة تتطلع إلى النهضة. ومن هذا المنطلق، فإنّ طموح الجزائر لا ينحصر في استدراك ما فاتها فحسب، بل في أن تواكب بإرادة راسخة مسيرة التطور التي تشهدها الأمم الأخرى، وأن ترسّخ لنفسها موقعًا فاعلًا ومؤثرًا في سباق الحضارات المعاصرة.