الجزائر ويوم المجاهد: من الوفاء للبطولة إلى استكمال رسالة الاستقلال

عبد الفتاح داودي*/ في العشرين من أوت، يتوقف الوجدان الجمعي للجزائريين عند مَعلمَيْن خالدين: 20 أوت 1955 حيث اشتعل لهيب الثورة في الشمال القسنطيني فهزّ أركان الاستعمار وأثبت أن الدم أقوى من الحديد، و20 أوت 1956 حيث التأم شمل الثورة في مؤتمر الصومام لتُرسم معالم الوحدة والتنظيم، فكان الحدثان معًا صفحةً من نور في كتاب …

أغسطس 26, 2025 - 14:02
 0
الجزائر ويوم المجاهد: من الوفاء للبطولة إلى استكمال رسالة الاستقلال

عبد الفتاح داودي*/

في العشرين من أوت، يتوقف الوجدان الجمعي للجزائريين عند مَعلمَيْن خالدين: 20 أوت 1955 حيث اشتعل لهيب الثورة في الشمال القسنطيني فهزّ أركان الاستعمار وأثبت أن الدم أقوى من الحديد، و20 أوت 1956 حيث التأم شمل الثورة في مؤتمر الصومام لتُرسم معالم الوحدة والتنظيم، فكان الحدثان معًا صفحةً من نور في كتاب الأمة، وإذانًا بميلاد جزائر جديدة كُتبت حروفها بدماء الشهداء وزفرات المجاهدين. لقد كان العشرون من أوت عهدًا بين الأرض والسماء، بين المجاهد والسلاح، بين الشهيد والكفن، بين الأمة ورسالتها، أن هذه الأرض لا تقبل القيد، وأن هذا الشعب لا يرضى بغير الحرية مصيرًا.
لكن للذاكرة رسالتها، وللاحتفاء واجبه، إذ ليس الوفاء وقوفًا عند الأطلال ولا بكاءً على الأطياف، وإنما الوفاء أن نحمل المشعل من بعد الشهداء، وأن نكمل الطريق حيث توقف الركب، وأن نصنع من الاستقلال السياسي نواةً لاستقلال ثقافي وفكري واقتصادي وحضاري. فالمجد الذي صنعه المجاهدون بالسلاح ينبغي أن نصونه نحن بالعلم، والحرية التي فازوا بها بالدم ينبغي أن نرسخها نحن بالقلم، والسيادة التي افتكّوها من فم المستدمر ينبغي أن نصقلها نحن ببناء الإنسان وإرساء مؤسسات العدل والعقل والإبداع.
إن أجيال الاستقلال لم تُعفَ من العهد، بل أُلزمت بميلاد جديد، هو ميلاد الاستقلال الثاني والثالث، استقلال لا يُختزل في جغرافيا محرَّرة بل في هُوية مصونة، في ثقافة راسخة، في اقتصاد منتج، في سياسة حكيمة، في جيش قوي، في جامعة منتجة، في مجتمع متماسك، في حضارة تُسهم في بناء العالم ولا تكتفي بالاستهلاك على موائد الآخرين. إن من الوفاء للشهداء أن نُكمل ما بدأوه، وأن نصون ما حرروه، وأن نرفع الجزائر من استقلال ناقص إلى استقلال كامل، ومن حرية مهددة إلى سيادة آمنة، ومن وطن قائم إلى أمة شاهدة.
لقد أراد الشهداء جزائر العزة والكرامة، فهل يليق بخلفهم أن يقنعوا بالهامش والاتباع؟ لقد كتبوا بدمائهم بيان الحرية، فهل يليق بنا أن نكتبه نحن بالحبر الباهت أو بالخطوط المتكسرة؟ لقد علّمونا أن الوطن ليس أرضًا فقط، بل فكرة ورسالة، وأن الشهادة ليست موتًا، بل حياة أوسع وأعمق. فكيف نحيا في جزائر الشهداء إن لم نكن على قدر وصاياهم، نُجدد في كل جيل بيعة الإباء، ونُعلن في كل زمن أن الجزائر لا تُختصر في الماضي بل تتجدد في المستقبل.
إن يوم المجاهد ليس ذكرى عاطفية تُستدعى في المناسبات، ولا هو قصيدة بكاء على أطلال الشهداء، بل هو عهد يتجدد، أن نبقى خير خلف لخير سلف. عهد أن نكون أبناء أوت كما كان آباؤنا، أن نكون صانعي الاستقلال الثاني كما كانوا صانعي الأول، أن نكون بناة الحضارة كما كانوا هُدّام القيد. ففي كل عشرين من أوت، تهمس دماء الشهداء في مسامعنا: «لا تفرّطوا في الأمانة، لا تقصّروا في الرسالة، لا ترضوا بالاستقلال المبتور، ولا بالحرية المنقوصة».
إن الجزائر التي وُلدت من رحم الثورة لا يمكن أن ترضى بأن تعيش على هامش التاريخ. والجزائر التي أنجبت أمثال زيغود يوسف وبن مهيدي وديدوش مراد لن تعجز عن إنجاب علماء ومفكرين ومبدعين وقادة يسيرون بها نحو النهضة. وما دمنا نستحضر ذكرى يوم المجاهد، فعلينا أن نجعل منها مدرسةً في الوفاء والعطاء، جسرًا بين الماضي والمستقبل، منارةً تُضيء الطريق لأجيال لم ترَ المستدمر بأعينها ولكنها تراه اليوم في صور التبعية الثقافية والفكرية والاقتصادية والحضارية.
فالاستقلال الحق لا يكتمل إلا حين نُحرر العقل من الوصاية، والقلب من الهزيمة، والجامعة من الجمود، والاقتصاد من التبعية والسياسة من الارتهان. حينها فقط نستطيع أن نقول إننا أوفياء لدماء الشهداء، وإننا جديرون بالعيش في جزائر العزة والسيادة والكرامة، وإننا خير خلف لخير سلف.