الاحتباس النظري في تفسير الصراع الدولي
لم يسبق للاختلالات الاستراتيجية في إدارة العلاقات الدولية، أن عرفت هذا الحجم المهول، مذ انتهت الحرب العالمية الثانية واحكام الغرب لسيطرته على العالم بعد نهاية الحرب الباردة، وهو ما يضع الأساس النظري الذي واكب هذا التاريخ تفسيرا وتنبؤاً، موضع النقد والتفكيك بغية محاولة بلوغ فهم جديد لما يجري اليوم على مسرح الصراع الدولي، سيما وأن …

لم يسبق للاختلالات الاستراتيجية في إدارة العلاقات الدولية، أن عرفت هذا الحجم المهول، مذ انتهت الحرب العالمية الثانية واحكام الغرب لسيطرته على العالم بعد نهاية الحرب الباردة، وهو ما يضع الأساس النظري الذي واكب هذا التاريخ تفسيرا وتنبؤاً، موضع النقد والتفكيك بغية محاولة بلوغ فهم جديد لما يجري اليوم على مسرح الصراع الدولي، سيما وأن مشاهده باتت من غرابتها، تثير التساؤل لدى المتفكرين والمفكرين في التاريخ، والمخاوف لدى عموم الشعوب والأمم، بعد أن كان هذا العالم قد استراح لمعقولية تاريخ ما بعد الحربين العالميتين، واعتقد في مرحلة جديدة من هذا التاريخ تقوم على الرفاه مفهوما وسياقا زمنيا لا يمكن من خلال الوعي به وممارسته العودة الي القهقرى، واستعادة العنف واستدعاء سرديات الدم لتحقيق المصالح، مفهوم المصلحة ذاته صراع محل إعادة تفكير وتفسير وتنظير، في ظل ما بات يلازم الدعوة إلى الصراع من شكوك تتعلق بهوية هاته الأصوات ومواقعها وخلفياتها في ذلك.
من هنا تفجرت سلسلة من التساؤلات الجديدة في حقول المعرفة السياسية، ما الذي جعل العقل السياسي في نطاقات اشتغاله المعرفية التفسيرية الاستباقية، يعجز عن التنبؤ بمآلات الصراع الدولي اليوم؟ وما هي مظاهر الانفلات في الواقع التي أعاقت التشكل النظري كإطار تفسيري لهذا الصراع؟
الاحتفالية المتضاربة بالتاريخ المشترك
عكس ما ذهبت إليه بعض الجهات في التأكيد على أن شاكلة الاحتفال المتضادة مؤخرا بالذكرى الثامنين لانتصار الحلفاء على المحور في الحرب العالمية الثانية، بين روسيا الداحر الأساسي للرغبة الهيمنية لهيتلر، ودول التحالف الغربية، تعكس ما بلغته العلاقات في عمق تأزمها اليوم، بسبب المشكلة الأوكرانية، فإن حقائق التاريخ تؤكد على أنه مذ تمكن الطرفان من خصمهما المشترك، ظلت الفوارق والخلافات ذات الأبعاد الحضارية والأيديولوجية مستمرة، وذلك مباشرة بعد أن حضرا وتواجها في برلين إثر دخولهما إليها من أبوابها الثلاث.
لكن في هذه الاحتفالية، ارتسمت ملامح جديدة للمشهد الدولي، لم تقع في حسبان وحسابات الاستراتيجيين والمنظرين للعلاقات الدولية، أين لوحظ نصف العالم في موسكو من غير تحالف عسكري أو تكتل اقتصادي بالضرورة، ونصفه الآخر في برلين حيث الشرخ الغربي والاوروبي واضحين في تفسير الماضي (بإدانة الستالينية ومحاولة البعض، دون الكل، تأكيد استمرارها من خلال البوتينية اليوم) والحاضر من خلال المواقف المتضاربة بشأن الحرب الروسية الأوكرانية، ذلك التضارب الذي يشل حركة النيتو ويضعف قدرة الاتحاد الأوروبي في مسعاه لمجابهة روسيا.
التآكل القطري الغربي الداخلي
إذا ما نحن انطلقنا في تحليلنا للصراع من مركزية الغرب وتحديدا من أوروبا، وهو ما تفرضه الموضوعية التاريخية ذاتها، فإننا سنلاحظ، بلا أدنى شك، ذلك الحضور الواضح للتحولات في موازين القوى الداخلية لأوروبا مذ اختارت الاتحاد على أسس تاريخية بعدما كانت محض سوق مشتركة فيما بعد الحرب العالمية الثانية، هذا الاتحاد ذي الأساس التاريخي الذي ينهض على تقاليد كلاسيكية من الثقافة والهوية التي سبقت الحرب، وفكر سياسي مشترك يتجاوز أو يحاول، أسباب المآسي التاريخية التي وقعت فيها القارة قبل وبعد الحرب العالمية الثانية – سنلاحظ – حتما بأن ما تم وضعه كأفق للبلوغ، أي الرفاه واستدامة السلم بالمنطقة وبالتالي بالعالم، قد سقط في الواقع، ليس فقط لأسباب خارجية متعلقة قبلا باستفاقة العماليق النائمة القديمة، وإنما لأسباب داخلية ذاتية، خلقها الانبعاث البورجوازي الأوليغارشي الكبير الذي أعاد تشكيل عدة مفاهيم لها امتداد في التاريخ السياسي لأمم الأوروبية ولعل من ابرزها الدولة الوطنية ذاتها التي خلقتها اتفاقية ويستفاليا، والتي صار بريقها يخفت وسطوتها تضعف أمام فاعلين جدد، تشير وتؤشر عديد المعطيات أن حضورهم في الصراع سيكون حاسما، وهو ما تثبته المعضلة الروسية – الأوكرانية اليوم من خلال تعنت نظم أوروبية حيال المقترحات السلمية التي تطرح هنا وهناك لحلحلتها، من خلال خطاب سياسي وإعلامي محترب يرفض كل مبادرة سلمية.
ثنائية السلم والحرب
هذا الموقف الأوروبي حيال المعضلة الأوكرانية، التي كانت مجرد مشكلة منتصف العشرية الماضية، بعد أن اخذت روسيا تستعيد مكانتها الدولية، وتبسط الصين بثقلها على الاقتصاد العالمي، ويولد البريكس من رحم التناقضات الدولية التي نجمت عن ذلك الانبعاث لقوى نائمة وأخرى نامية، استحالت (المشكلة الأوكرانية) إلى معضلة سيما بعد الطامة الانتخابية بأمريكا التي افرزت عودة دونالد ترامب إلى قيادة القوة العظمى الأولى، أي الولايات المتحدة الأمريكية بمشروع واحد أوحد، وهو كبح جماح الصين ومسلكها الكاسح بقوة وسرعة لاعتلاء عرش الحضارة الإنسانية في أفق 2050 كما هو موضوع في استراتيجيتها الوطنية، وكما تقر به كل الدراسات والبحوث العالمية، هذا الفشل الأوروبي في رصد التقلبات الدولية وأهمها الشرخ على مستوى الأسرة الغربية الواحدة، بانزياح أمريكا التاريخي عنها وانحيازها لروسيا، بغرض الحيلولة دون التحالف الأعظم بين ذوي الإرث الشيوعي الشرقي السابق – هذا الفشل – لهو خير برهان على تراجع المعقولية السياسية والاستراتيجية الغربية في قدرتها على انتاج النظري، الذي به تميزت في العقود العشرة للقرن الفائت وبه كسبت كل معرك الشطرنج الاستراتيجي واستعادت من السوفيات ما حازه لنفسه من أراض ودول في بوتسدام ويالطا بعد انتصار الحلفاء، واندحار المحور.
وفي ظل هذا الفراغ التنظيري النظري للواقع الدولي في تصارعيته، عادت ثنائية الحرب والسلم لتفرض نفسها كأساس تفسيري للأزمة الراهنة، جاعلة من الحرب الروسية – الأوكرانية محورها في جزء من القراءة الأوروبية، من خلال إدانة روسيا ومساندة أوكرانيا، نقول جزء، لأن الشرخ لم يقف عند مستوى الأسرة الغربية الكبيرة عبر ما عبرنا عنه بالانزياح الامريكي الوازن، وإنما بلغ عمق الاتحاد الأوروبي ذاته، حيث ترفض عديد دوله لا سيما تلك المنتمية إلى التراث الشرقي مثل المجر وسلوفاكيا وصربيا، فكرة مناكفة واستعداء روسيا ومساندة أوكرانيا في حرب، قدَّرت هذه الدول، أنها خاسرة من الأول.
اليقين في النصر والتراث الاستراتيجي الخاطئ
والغريب في الحالة الأوروبية اليوم هو أن الجدل الذي تعكسه مظاهر التناقض السياسي والاستراتيجي الداخلي، على مستوى الساسة ومفكرين والإعلاميين تابعين، بين نخب الحرب كوسيلة لكسر إرادة الروس في تحجيم أوروبا ووقف توسعها الاستراتيجي والعسكري، ونخب السلم التي ترى أن أوروبا واقعة تحت وهم الحماية الأطلسية، بدل أن تركز على الوحدة الأوروبية، وهي بذلك كمن يسعى لحتفه بظلفه، فعليها، والحال هذه، أن تختار نهج السلام مع روسيا، بدلا من استعدائها ومحاولة حشرها في الزاوية وهي (روسيا) التي تأبى أن تُحشر كذلك، بحكم ما عرف عنها من التاريخ البطولى العسكري الكبير والجغرافيا العظمى المستعصية على كل جيوش العالم مجموعات وأشتاتا.
.
التهافت النظري في تفسير الصراع
إن حالة التهافت النظري في تفسير الواقع الدولي اليوم، هي، ومن غريب الصدف، نتاج حضور معطيات جمة من فسيفساء الاسقاط النظري الجزئي لما هول واقع في مسرح الصراع، فإذا كان الأوروبيون لا يزالون اليوم يستميتون اليوم في الدفاع عن رؤيتهم المتمحورة حول سلام المنتصر، أي ذلك الذي يفرضه المنتصر في الحرب بإجبار خصمه المهزوم على الاستسلام، وهذا ما لا يستقيم مع الحالة الروسية في حربها مع أوكرانيا، حيث الروس في موقع قوة لا سيما بعد أن جافت الولايات المتحدة الامريكية، أوروبا وانحازت لروسيا، عاكسة بذلك البعد النظري البنائي في سعيها ذلك، باستدراج واستدراج الإرث الأوروبي القديم إلى هذا المواجهة والاستمرار فيها.
فإن “البراغماتية” كأساس لتفسير السلام الذي تريده أمريكا، الساعية أساسا لتلافي ما يمكن أن يعيق استراتيجيتها، كما أشرنا، في أفق احتواء الصين والعمل على المزيد من انضابها من كل عناصر القوة المفضية إلى بلوغ أفق ادراك أمريكا في هرم السيادة الكونية سنة 2030 في انتظار تجاوزها مع حلول 2050.
فهذا العجز النظري والتنظيري، لواقع الصراع الدولي الجديد، واستحالة رؤيته من زاوية نظرية واحدة في السياسة أو العلاقات الدولية، والذي يكشفه المساران المتعاكسان في التوجه الاستراتيجي الغربي اليوم داخل الحوزة الغربية الواحدة، بين دعاة “سلم المنتصر” الذي يجد له لدى متبنيه شرعية في تجربة الماضي من الحروب العالمية والأوروبية، ودعاة “السلم البراغماتي” الذي لا يريد أصحابه من خلاله، لا سيما أمريكا، أن تفلت المبادرة الصراعية من استراتيجيتهم ما يجعلهم يخسرون الصراع، يكشف (هذا العجز) عن مدى عمق الأزمة الدولية التي صارت الطبيعة الفجائية تفرض نفسها في سياقها التدافعي، وذلك عكس التجارب الماضية، كانت تعد مسبقا وتحبك بإحكام، من مثل ما أشارت إليه عديدة الأصوات المؤرخة للصراع طبائع إدارة لعبه، أين زعمت مثلا من أن ألمانية بثقلها الامبراطوري في تاريخ أوروبا، كانت دائما ما تسقط في الفخ الأنجلو- كسوني الذي يأبى لها أن تهيمن على أوروبا فضلا عن العالم، بإقحامها في كل مسعى نهضوي تخوضه، في حرب مع روسيا الكبرى، يخسرها الالمان بالضرورة، بحكم كما أشرنا أعلاه، التاريخ البطولة والجغرافيا الصعبة لروسيا، سواء السوفياتية منها أو الامبراطورية.
.
الالتباس في خطاب الصراع
إن العلاقات الدولية اليوم، بحكم ما هو ملاحظ من تعقدها وعدم القدرة على تعقُّلها، وهذا من خلال ما هو مرصود من التشظيات البنيوية التي تظهر على أكثر من مستوى في الممارسات الإقليمية من أحلاف عاجزة عن التفاعل وتكتلات عاجزة عن التوافق، حيال أكثر من أزمة، كالحرب على غزة، الحرب الأوكرانية الروسية، حروب الساحل المتتالية والتي لا يكاد يُصك لها عنوانا، هي مرة تهديدات، مرة إرهابا، مرة بؤرة صراع، لهي دليل على أن الأساس النظري بحسبانه بوصلة الأطراف في هاته العلاقات، قد أفلس في العقل الاستراتيجي الأوروبي والغربي على وجه أخص، وهو الذي تمركز في هذه العلاقات في اعقاب انتهاء الحرب الباردة بانتصاره فيها، وأعلن عن قيام نظام دولي جديد ترأسه زعيمة هذا الغرب أمريكا، في أحادية قطبية عبرت عن نفسها أيديولوجيا الليبرالية المنهية للتاريخ، واقتصاديا بالعولمة الكاسحة لكل الحدود.
عواقب شبح الفراغ النظري
ومن خلال ما تقدم، بات واضحا أنه لا يمكن في ظل حالة الفراغ النظري الذي يتسم به المشهد الدولي في علاقاته اليوم، والشروخ والتشظيات الحادثة داخل بُنى أطرافه، إلا أن يعود هذا المشهد القهقرى إلى ماضيه، أي إلى القوة العسكرية كأساس للحسم الخلافي، وهذا على ضوء الإصرار الأوروبي باستمرار الحرب بين روسيا وأوكراينا واليقين بانتصار أوكرانيا ما يفضي إلى معاودة تجربة الماضي أي فرض “سلام المنتصر”، وذلك على رغم انتفاء كل مقومات وعناصر الوصول إلى هكذا هدف، بالنظر، كما أشرنا إلى بروز داخل الأسرة الغربية ذاتها اتجاه يحمل “السلام البراغماتي” باعتباره يوفر له سبل تحقيق هدفه الرئيس والذي لا يشمل فيه أوروبا، ما يعني أن الأوروبيين لا يمكنهم الرهان على الأطلسي للحسم العسكري، طالما أن قائدة هذا الحلف الكبرى أي الولايات المتحدة، مصممة على تعطيل فاعليته لمواجهة روسيا، في سياق رؤيتها للسلام البراغماتي، ولا يمكن للأوروبيين البتة، مجابهة روسيا لتحقيق نظريتهم “سلام المنتصر” بقوة وحدتهم الإقليمية وغياب قدرة مؤسسية عسكرية ذاتية مستقلة عن الأطلسي وعن أمريكا وموازية للقدرة على الردع والسحق التي تملكها روسيا اليوم.
المنقلب ما بعد عصر الرفاه
واضح في الختام أن الوضع الحالي للعلاقات الدولية، بقيامه على الفراغ النظري ملحوظ الذي سببه تهافت الأفكار الأولى التي رامت أو زعمت استمرار واستدامة انتصار الغرب وقيمه ومبادئه فيما عُرف بنهاية التاريخ، وانتصار الليبرالية، وتقدم قوى غير أيدولوجية لقيادة العالم بالسيطرة الرغبة في السيطرة على أسواقه، واقتحام مناطق نفوذ ظلت تاريخيا محتكرة من قبل غيرها – أن هذا الوضع – سيفرز منقلبا جديدا حالما يبلغ مسار اعتصاره نهايته، هاته النهاية التي تفلت اليوم من التحليل والاستشراف، وهذا في حد ذاته دليل على الإفلاس النظري الذي يوسم اللحظة العالمية في علاقاته الدولية، وبقاء كل الاحتمالات واردة بما فيها العودة إلى الصراع العسكري، في إيذان واضح بانتهاء عصر الرفاه كأفق لمشروع ما بعد الحرب الباردة التي من خلالها تم تحويل جل القدرات الاقتصادية التي كانت مخصصة لمعركة كسر العظم فيما عرف بالسباق نحو التسلح، إلى المجال الاقتصادي والتكنولوجي، سهل الكثير من أمور الحياة وأحدث قفزة في نطاق التواصل بين الشعوب والأمم والأفراد حتى، قبل أن يفرز بروز فاعلين جدد، يلقون اليوم بثقلهم لا على المستوى المحلي للدول بل وعلى صعيد العلاقات الدولية، نشأوا من هذا الرفاه بطرق ووسائل لا تزال قصية عن الضبط والتفسير. .
بشير عمري