التحدي العلمي في نظر الشيخ إبراهيم أبي اليقظان (1888-1973) *
أ.د. مولود عويمر/ لقد عاش الشيخ إبراهيم أبو اليقظان (1973-1888) في أصعب مراحل تاريخ الجزائر المعاصر، وعاصر أوج المد الاستعماري في البلاد، وشاهد الاحتفال الصاخب والمستفز للجزائريين: الذكرى المئوية للاحتلال الفرنسي للجزائر، ومسته سلسلة من القوانين الفرنسية الجائرة التي حاربت اللغة العربية في عقر دارها، وحاصرت التعليم العربي الحر، وضايقت الصحف الوطنية. وفي هذه المداخلة، …

أ.د. مولود عويمر/
لقد عاش الشيخ إبراهيم أبو اليقظان (1973-1888) في أصعب مراحل تاريخ الجزائر المعاصر، وعاصر أوج المد الاستعماري في البلاد، وشاهد الاحتفال الصاخب والمستفز للجزائريين: الذكرى المئوية للاحتلال الفرنسي للجزائر، ومسته سلسلة من القوانين الفرنسية الجائرة التي حاربت اللغة العربية في عقر دارها، وحاصرت التعليم العربي الحر، وضايقت الصحف الوطنية. وفي هذه المداخلة، أعرض عليكم صورا من استجابة الشيخ أبي اليقظان لكل هذه التحديات التي لم تنجح في منعه من الاستمرار في عمله الفكري والإصلاحي. فالتحديات جزء من السيرورة التاريخية، ونوعية الاستجابة لها -كما قال المؤرخ والمفكر البريطاني أرنولد توينبي (1973-1889)- هي التي تحدد مسار الحركة التاريخية، وتوجهه في اتجاه التقدم أو في اتجاه التأخر. وسأكتفي هنا بدراسة استجابة الشيخ أبي اليقظان للتحدي العلمي خلال الفترة الاستعمارية.
الشيخ أبو اليقظان في سطور
ولد الشيخ إبراهيم بن الحاج عيسى الشهير بـأبي اليقظان في بلدة القرارة (ولاية غرداية حاليا) في 5 نوفمبر 1888، حفظ القرآن الكريم بمسقط رأسه ثم درس على يد الشيخ أطفيش ببني يزقن. ثم واصل تحصيله العلمي في جامع الزيتونة بتونس حيث مزج بين الدراسة والعمل السياسي إلى جانب عبد العزيز الثعالبي وغيره من قادة الحزب الدستوري الحر التونسي. عاد إلى الجزائر في عام 1926 فواصل نشاطه مشتغلا بالصحافة التي عرف دورها في تفعيل حركة التنمية والإقلاع النهضوي، فأنشأ ثماني صحف بين عام 1926 و1938، وهي: وادي ميزاب، ميزاب، المغرب، النور، البستان، النبراس، الأمة والفرقان، متحديا بذلك كل المعوّقات القانونية والضغوطات الإدارية الاستعمارية والمشكلات المالية والمادية.
ساهم في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عام 1931 وانتخب في مكتبها الإداري كنائب لأمين المال نظرا لخبرته الواسعة في مجال التسيير والمحاسبة والأعمال التجارية فضلا عن مكانته العلمية وشهرته الصحفية. وأنشأ المطبعة العربية بمدينة الجزائر وطبع فيها كتبا وجرائد وطنية فخدم بذلك الثقافة الجزائرية والتراث العربي والإسلامي. وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية استقر في مسقط رأسه متفرغا للنشاط الأدبي والدعوي والعمل التربوي والاجتماعي. وقد أصيب بداء الشلل النصفي في عام 1957 لكنه لم يمنعه من الكتابة والدرس والتواصل مع غيره من العلماء في القطر الجزائري وخارجه إلى أن التحق بالرفيق الأعلى يوم 30 مارس 1973.
أهمية العلوم في البناء الحضاري
لقد حارب الشيخ أبو اليقظان وغيره من رجال الإصلاح الجزائريين الجهل، واعتبروه أخطر معاول الهدم لأركان المجتمع والأمم، فالجهل ينشر الشر، ويكرّس التخلف، ويحطّم العزائم، وينوّم الوعي. قال الشيخ أبو اليقظان: «بأي صوت أصرخ، وبأي قلم أكتب، ومن أي منفذ أدخل إلى نفوس الذين يخافون من الجوع موت الجسد، ولا يخافون من الجهل موت الروح… فبالجهل هتكت أعراض، وبالجهل فسدت أخلاق، وبالجهل بددت أموال، بالجهل ديست كرامات، وبالجهل أهينت أديان، وبالجهل أبيدت أمم، وبالجهل خربت بلاد، وأي أثر من آثار الجوع إزاء هذه الآثار الفضيحة من الجهل».
كان الشيخ أبو اليقظان متفتحا على العلوم الحديثة من اللغات الحية، وعلم النفس وعلم الاقتصاد وعلم الجغرافية والتاريخ… يشجع الطلبة على تعلمها ويحث العلماء على الاهتمام بها والرجوع إليها في دروسهم وفتاواهم.ونبّه إلى خطورة إهمالها على أداء الشعائر الدينية وقضاء مستلزمات الحياة. فهذه العلوم 16 التي ذكرها في مقال نشره في جريدة «وادي ميزاب» سواء ما تعلق بالعلوم الشرعية أو العلوم الاجتماعية أو العلوم الطبيعية لا يجب أن يستغني عنها الإنسان المؤمن لاعتبارات متعددة.
وقد أشار إلى نقطة مهمة لم تعرف أهميتها في تاريخ العلم إلا في القرن العشرين وهي فكرة التكامل المعرفي التي صارت اليوم موضة وأسلوب العمل والبحث في حقول العلوم الاجتماعية. فقد كتب الشيخ أبو اليقظان في زمانه ما يقترب من هذه المعاني، فقال: «العلوم في الواقع مترابطة تخدم بعضها بعضا ولا تظهر فائدة البعض إلا بالآخر».
وتتمثل قيمة العلم في تطبيق نظرياته ونتائجه على أرض الواقع وتوظيف ثمراته في خدمة الإنسان وتحقيق سعادته وصون كرامته في الحياة. فقال الشيخ أبو اليقظان في هذا السياق: «إن أهمية العلوم لدى الأمة إنما بقدر ما لها من المساس والارتباط بحياتها في المعاش والمعاد». ودعما لهذه الفكرة المستنيرة، كتب الشيخ أبو اليقظان مقالا آخر في نفس الجريدة مؤكدا هذه المرة على ضرورة الاهتمام بالجوانب التطبيقية للعلم ولزوم ربط المعرفة بالعمل.
حاجة العلم إلى الأخلاق والقيم
ومهما بلغ الإنسان أو المجتمع في مدارج العلم فإنه لا يستنفع من ثمراته إذا لم يتوج ذلك بالقيم والأخلاق الفاضلة التي توجهه نحو استخدام الاختراعات والاكتشافات والأفكار والنظريات في الخير والرقي، أما إذا لم يتمسك بالأخلاق فإنه يستغل نتائج البحث العلمي في الشر والضر سواء بشكل مقصود أو غير مقصود. لذلك ربط الشيخ أبو اليقظان بين التعليم والتربية، وبين الأفكار والقيم ليستقيم التحصيل العلمي وتتحقق فوائده بين الناس ويسود الوئام في المجتمع، فيلتزم كل فرد بواجباته وينال حقوقه غير منقوصة.
قال في هذا السياق: «لقد خلق الإنسان ضعيفا محتاجا إلى أخيه في جميع لوازم حياته ولا يمكن له أن يعيش معه إلا إذا علم ما له وما عليه من الحقوق والواجبات فيعامله بمثل ما يجب أن يعامل به. هل هذا يكون بغير التثقيف والتهذيب والتربية الصحيحة ودراسة علم النفس واستجلاء الأخلاق الفاضلة والرديئة، فيتحلى بالأولى ويتخلى عن الثانية؟ وإهمال هذا الفن من مناهج التعليم ضرر كبير وخطر عظيم على البشرية كما هو مشاهد».
واستمر الشيخ أبو اليقظان في تعزيز الرابطة بين التعليم والتربية، ودعم صديقه المربي الكبير الشيخ إبراهيم بيوض الذي جعل من معهد الحياة بالقرارة نموذجا في هذا المجال.
وسائل تحقيق النهضة العلمية
نشر أبو اليقظان مقالا نفيسا في جريدة «المنتقد» بعنوان «معامل العقول». وكان يقصد بمعامل العقول وسائل تحقيق النهضة في أي مجتمع، وهي تتمثل في نظره في العوامل التالية: المدارس، النوادي الأدبية، المجامع العلمية، المكتبات، الجرائد، الرحلة والسفر.
ولم يكتف الشيخ أبو اليقظان بشرح كل عامل من هذه العوامل وبيان أهميته في دفع عجلة النهضة، فقد نبّه أيضا إلى خطورة الفراغ الفكري في المجتمع وخلوه من المنشئات الثقافية وخمول نشاطه العلمي. لذلك قال بكل وضوح مذكِّرا ومنذِّرا: «فلا محيد لنا إذًا من أحد أمريْن: إما تشييد معامل لعقولنا فنبرز بها ما كمن بنا من المواهب والمزايا، وإما أن نخمد تلك المادة التي ما ميّز الله الإنسان عن الحيوان إلا بها فنعيش نحن والحيوان في مستوى واحد تسومنا الخسف معا تلك الأمم التي بذلت كل ما لديها من الجهود لتشييد تلك المعامل لاستخراج تلك المواهب. إنَّ كرامتنا القومية وعزتنا الإسلامية ووطنيتنا الصادقة لا تسمح ولن تسمح لنا بعد توالي العظات والعبر أن نعيش والحيوان سواء بل مجدنا التاريخي وعظمتنا الملية يقضيان علينا أن نعيش معيشة الإنسان تحت أشعة الشمس المضيئة وبين ذرات الهواء الطلق !!!».
لقد ظهرت مبادرات فردية وجماعية في الجزائر تنشر العلم، وتؤسس المدارس، وتفتح النوادي، وتنشأ الصحف، وقد ذكر الشيخ أبو اليقظان على سبيل المثال جريدة «المنتقد» للشيخ عبد الحميد بن باديس (1889-1940)، وجريدة «الجزائر» للشيخ محمد السعيد الزاهري (1899-1956)، ورحب بكل الأعمال الفكرية والتربوية التي ظهرت في الثلث الأول من القرن العشرين مثل تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كان من مؤسسيها الأوائل، وأقطابها العاملين في حقل الإصلاح الديني والعلمي بالقطر الجزائري.
فالعمل التربوي والفكري في نظر الشيخ أبي اليقظان لا يقوم فقط على الكلام، والخطاب والتعليم لكن لابد أيضا من إنشاء مؤسسّات، فهو نفسه أنشأ الجرائد وأسّس مطبعة (المطبعة العربية). ربما لم يكن يربح منها كثيرا من المال، ولكنه على الأقل كسر الاحتكار الذي كانت تمارسه آنذاك المطابع الفرنسية .. فهو إذن رجل الاقتصاد وباني المؤسسات، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان، لأن من مميّزات المؤسسة هو الصمود عبر الزمن… ذلك أن الربح لا يجنى إلا بعد سنوات من الجد والعمل ومواجهة التحديات.
ولقد أشارت كل الدراسات التي اهتمت بأعمال الشيخ أبي اليقظان إلى هذه العزيمة الجبارة وأشادت ببصيرته الثاقبة فقد عرف مبكرا بأهمية الإعلام في رسالة الدعوة والمشروع الفكري، وولج إلى عالمه بقلمه وماله.
لقد كان متفائلا في سير الجزائر نحو النهضة بعدما ظهرت بعض هذه المعامل على أرض الواقع، واعتبر ذلك خطوة كبيرة في طريق النهضة الأدبية والفكرية العربية في الجزائر، ودعا إلى دعم هذه المبادرات بكل الوسائل المتاحة آنذاك غير أن سلطة الاحتلال كانت بالمرصاد لكل العاملين المخلصين فعطلت في كثير من المرات الجهود المخلصة الرامية إلى إخراج المجتمع الجزائري من ظلمات الجهل إلى نور العلم، وانتشاله من مدارك التخلف إلى مدارج الرقي.
وكان الشيخ أبو اليقظان واحدا من ضحايا الاستبداد الاستعماري الذي أوقف صحفه الثمانية وعرقل نشاطه الأدبي والفكري مرات كثيرة غير أن عزيمة أبي اليقظان لا تفتر أبدا ويتكيّف مع الظروف ويستجيب للتحديات القائمة ويواصل أعماله الاصلاحية وجهوده التربوية ونضاله التحرري.
*مختصر نص محاضرة قدمها الدكتور عويمر في قصر الثقافة بالجزائر العاصمة بدعوة من مؤسسة أبي اليقظان الثقافية.