الحكمة من التكليف الشرعي (1)

أ. خير الدين هني/ ها قد هلّ علينا شهر رمضان المبارك، بفضائله ومكارمه وخيراته، وبركاته ويمنه وطهره وقدسيته، وهو شهر عظيم الفضل جليل القدر رفيع الشأن، عند الله تعالى والملائكة والمسلمين في كل زمان ومكان، ذلك بأن جعله الحق سبحانه شهر الركن الرابع من فرائض الإسلام الخمس، يصوم المسلمون نهاره ويقومون ليله، ويعظمون فضائله ويُجلّون …

مارس 10, 2025 - 12:08
 0
الحكمة من التكليف الشرعي (1)

أ. خير الدين هني/

ها قد هلّ علينا شهر رمضان المبارك، بفضائله ومكارمه وخيراته، وبركاته ويمنه وطهره وقدسيته، وهو شهر عظيم الفضل جليل القدر رفيع الشأن، عند الله تعالى والملائكة والمسلمين في كل زمان ومكان، ذلك بأن جعله الحق سبحانه شهر الركن الرابع من فرائض الإسلام الخمس، يصوم المسلمون نهاره ويقومون ليله، ويعظمون فضائله ويُجلّون شعائره، ويستعدّون لقدومه بإبراز مظاهر الفرحة والبهجة والسرور، والاستعداد النفسي والروحي والبدني، وكلهم مستعد للتزكية والتطهّر، مما قد علق بالنفس الشهوانية، من بعض عوالق الذنوب والآثام بقصد أو بغفلة وغير قصد.
وقد ظلت هذه النفس التي لا يشبع نهمها وهواها شيء، ولو كان كثيرا وكثيرا، ظلت غافلة عن التزكية والتطهّر، ومراجعة الذات وتقويم أعمالها وحسابها عند تجاوز الحد أو التقصير في العبادة والبر وفعل الخيرات، أو على ما اقترفته من ذنوب وخطايا، فتستشعر الخوف من الله تعالى، فيغتنم صاحبها فرصة حلول هذا الشهر المبارك، فيعود إلى الله تائبا آيبا نادما مقرا مستغفرا، والإنابة الصادقة هي من يقرّب المسلم إلى الله سبحان، عندما يصدق في نيته وقصده، ويخلص في عمله وعباداته.
بعد أن نسي أو كاد هذه المراجعات، طوال أيام العام في غير شهر رمضان، فما إن ينفرط شهر رمضان من كل سنة، حتى ينسى بأنه مكلف -شرعا-بالاستقامة في الدين والخلق والسلوك، والعمل الجاد والمتقن في تعمير الأرض وإصلاح شأنها، لأن الإنسان بفطرته وغرائزه سرعان ما ينسى سنن الالتزام بالقواعد والضوابط الدينية والأخلاقية، لأنه سريع الانجذاب إلى اهتمامات أخرى، مسيطرة بالسليقة على عقله ووجدانه ونفسه، لأن لها ارتباطا وثيقا بأعباء الحياة وتكاليفها، وهذا ما تدعو إليه بإلحاح كبير غرائزه الفطرية، فيسعى سعيا حثيثا لتلبية هذه الاحتياجات، فنراه -دوما- حريصا على الكسب والتملّك، طالبا الاستزادة من جمع المال ومتاع الدنيا .
لأنه يجد عبر غرائز الاكتناز في جمع المتاع، ما يحقق له أسباب القوة والمنعة والجاه والتمّيز عن الغير، بالنبوغ والمواهب والتفوق والوجاهة الاجتماعية، وتحقيق هذا المتاع والأسباب هو ما يحرك غرائز الإنسان ودوافعه، فينشأ في ذاته الشعور باللذة والمتعة والارتياح، وهذه الحالة الشعورية طبيعة مركوزة في النفس الإنسانية، وقد خلقها الباري سبحانه في الإنسان، كيما تحفزه على الجد والكد والاجتهاد في العمل الدؤب، فتضمن له الاستمرارية في الحياة والبقاء إلى أجل معلوم وإن طال زمانه، كنوع بشري متميز بالقدرة على التفكير والإدراك والتبصّر، خُلق من أجل غاية العبادة والعمارة في الأرض.
ومن جهة أخرى خلق الباري سبحانه هذه الغرائز الشهوانية في الإنسان، كي تجعله في موقع اختبار للموازنة بين مطالب كسب متاع الدنيا التي يعيش بها، وبين الالتزام بالتكاليف الشرعية بأوامرها ونواهيها، في العبادة والمعاملة والأحلاق والسلوك، وهذه المزاوجة بين العمل بالتكليف الشرعي وبين طلب متاع الدنيا، يُحدِث التصادم في تحقيق الغرضين معا، لأن التكليف الشرعي تحكمه قواعد وضوابط صارمة في التطبيق، ولا تقبل أعمال التكليف من عبادات ومعاملات وأخلاق إلا وفق هذه القواعد التي وضعها الشارع الحكيم، ومطالب الحياة الدنيا كثيرا ما تجري وقائعها عبر مسارات غير شرعية، ولا تتحقق أهدافها إلا بوسائل الكذب والتزوير والتدليس، والتلفيق والغش والحيلة والكيد والمكر والغبن، وغير ذلك، و ذلك كله سيئة عند الله تعالى، وقد توعّد من يفعل ذلك بالعذاب الأليم يقوم الناس للحساب.
واختبار التكليف لا يكون إلا بشروط قاسية، ولا يجري في ظروف سهلة وبسيطة، وإلا انعدمت فيه معايير الاختبار الموضوعية، لو جري بغير صعوبة وعسر، والغرائز الشريرة والخبيثة المودعة في نفس الإنسان، هي الشروط القاسية التي تحدث الصراع بينها وبين التكاليف الشرعية في دواخل الإنسان، فالتكاليف الشرعية مضبوطة بقواعد دقيقة، ومطالب الدنيا محكومة بعدم تجاوز قواعد التكاليف الشرعية لا في قليل ولا في كثير، وهنا تطرح مشكلة معقدة تواجه الإنسان المُمتحن، «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين»، فهو مدعو إلى الالتزام بالتكاليف الشرعية، وفي الوقت ذاته مطالب بتحقيق احتياجاته في الحياة الدنيا.
وإلى هنا ينقسم المسلمون إلى فريقين اثنين، الأول: فريق مؤمن صالح تقي نقي يخاف الله، ويلتزم بأوامره ونواهيه في رمضان وغيره من الشهور، فيجعل الله رقيبا على أعماله وأقواله وتصرفاته وسلوكاته، وكلما نازعته نفسه على تجاوز قواعد التكليف في العبادة والتجارة أو الكسب والتملّك أو المعاملة مع الغير، إلا نهاها وزجرها وجعل حدا لهواها وغيّها، وشراهتها في طلب الرزق بالوسائل غير الشرعية، وهؤلاء هم المؤمنون حقا، وهم من قال فيهم الباري سبحان:» وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا»، (النساء:124).
والأعمال الصالحة فعلية كانت أو قولية، هي الفرائض والواجبات والنوافل وكل ما فيه خير ونفع للفرد والناس، وحسّن العلاقة بين المسلم المؤمن وبين خالقه تعالى والناس أجمعين، سواء أكانوا ذكورا أم إناثا، والأعمال الصالحة هي المتعلقة بالأوامر والنواهي التي تتضمن الحلال والحرام والمباح، وهي الأعمال التي حددت شعائرها التكاليف الشرعية، والإيمان شرط ضروري في قبول الأعمال الصالحة، فأولئك يدخلهم الله الجنة دار النعيم المقيم، ولا يُنْقَصون من ثواب أعمالهم شيئًا، ولو كان مقدار النقرة في ظهر النواة.
أما الأعمال الصالحة من بر وإحسان ومعروف، من دون إيمان بالله فلا يقبلها الله، لأن الله لا يقبل إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم، وغير المؤمن بالله لا يقدم المعروف لينال رضا الله لأنه لا يؤمن به، وإنما يقدمه لينال رضا الناس وحمدهم وشكرهم له، وهذا هو جزاؤه في الدنيا قد ناله مسبقا، ولذلك حرم الله على المؤمنين الرياء والمباهاة والامتنان على المحسن إليهم، لأن صاحب الفضل استعاض برضا الله رضا الناس، فكان جزاؤه مثل الكافر.
والفريق الثاني: وهم المسلمون الذين يغفلون عن ذكر الله في غير رمضان، فينسون الذكر والطاعة الخالصة والامتثال للتكاليف الشرعية، لكثرة انشغالهم بجمع المال ومتاع الدنيا من مال وكسب وميرة، وهؤلاء هم من يجب أن يستيقظوا من هذه الغفلة حين يحل شهر رمضان، ويراجعوا أنفسهم بميزان الشرع، ويعلنوا توبتهم إلى الله إن أخطؤا الطريق المستقيم، ويمتثلوا للأمر الإلهي، لأن الله وعد عباده المخطئين في حقه بقبول التوبة، إن أخلصوا فيها وأقلعوا عن الذنوب، فقال جل ثناؤه: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»، (الزمر:53)، وقوله سبحانه في موضع آخر: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَات وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ»، (الشورى:25).