الحلقة السّادسة: بين الغرب والشّرق (1)

ومن هنا جاء خطاب الحداثة الغربية الذي أهدر كل المرجعيات السابقة من جهة، وأسّس لنظرة جديدة لله والكون والإنسان مبنية على العقلنة وعلى الحرية من جهة أخرى. ومن هنا تغيرت هذه الرؤى جذريا، فلم تعد الطبيعة وجودا كليانيا مخلوقا لله ينتسب الإنسان إليه، بل غدت فضاء خارجيا على الإنسان أن يغزوه بعقله ويسيطر عليه ويخضعه، […] The post الحلقة السّادسة: بين الغرب والشّرق (1) appeared first on الشروق أونلاين.

مارس 5, 2025 - 14:29
 0
الحلقة السّادسة: بين الغرب والشّرق (1)

ومن هنا جاء خطاب الحداثة الغربية الذي أهدر كل المرجعيات السابقة من جهة، وأسّس لنظرة جديدة لله والكون والإنسان مبنية على العقلنة وعلى الحرية من جهة أخرى.
ومن هنا تغيرت هذه الرؤى جذريا، فلم تعد الطبيعة وجودا كليانيا مخلوقا لله ينتسب الإنسان إليه، بل غدت فضاء خارجيا على الإنسان أن يغزوه بعقله ويسيطر عليه ويخضعه، فهو مركز الكون والسيد المتصرف! ولم يعد الله هو خالق الوجود أو على الأقل لم يعد المتصرف فيه ولم يعد صاحب وحي آمرا ومعبودا، بل أصبح إما إلها في السماوات لا علاقة له بالشأن البشري وإما أنه غير موجود أصلا، ولم يعد الإنسان هو الإنسان في كليته بل هو الإنسان الغربي في مركزيته، بينما الآخرون أو الأطراف متخلفون بيولوجيا أو ثقافيا أو حضاريا أو ضعفاء ينبغي غزوهم والسيطرة عليهم!
ولن ينفع بعد ذلك أن يتحدث “كانط” عن حدود العقل والعقلانية وعن المجالات الإمكانية للنظر العقلي، فما دامت الميكانيزمات الحداثية قد انطلقت فلن يوقفها أحد ولن توقف هي نفسها حتى تبلغ إلى غايتها التي هي نهايتها.
وإذا كانت الحداثة هي عصر العقلانية بامتياز، لكنها كذلك إعادة النظر في العقل والعقلانية من خلال المراجعات الكبيرة لا سيما مراجعات ما بعد الحداثة للعقلانية؛ فالعقلانية في منطلقاتها ترى أن العقل حركة دائمة لا نتائج نهائية، ولا تنظر إلى العقل على أساس أنه قد اكتمل تكوينه ووصل إلى نهايته، بل على أساس أنه في حركة دائمة نحو نهاية لا يعلمها الإنسان العاقل ولا يريد أن يعرفها أو ربما هي غير موجودة أصلا، لكن الحداثة العربية كانت بعيدة عن كل هذه الآفاق بل رجعت إلى روح الممارسة الكنسية القروسطية التي تقول أن هناك إنجازات جاهزة يجب الأخذ بها. وإذا كانت منجزات الكنيسة هي نتائج العقل الأول بالتعبير الأرسطي فإن منجزات العقلانية في منظور الحداثة العربية هي منجزات العقل الحداثي الذي ينفي عن نفسه الكمال والاكتمال ابتداء.
لكن الحداثة بعد ذلك غيرت دلالاتها واستمدادات مصداقيتها، فبعدما كانت هذه الاستمدادات هي تطور الإنسان وكرامته أو تناغمه مع الطبيعة في مفهوم روسو وفلاسفة الأنوار الأوائل، أصبحت العقلانية الغربية تستمد مصداقيتها من قوته وإهداره لكل المرجعيات الأخرى، وتحول الإنسان ذاته إلى مصدر للحقيقة وغايتها ومعيارها، بل لم تعد توجد حقيقة أصلا؛ وأهدر كل المعايير المتعالية والقيم المتعالية والدلالات المتعالية والمرجعيات المتعالية: الله والدين والتاريخ وحتى المجتمع. وكان العقل نفسه هو آخر مهدَرات ما بعد الحداثة وبروز ما يسمى العقل اللاعقلي.
ولذلك نلاحظ في الحداثة الغربية خطين متوازيين متلازمين جدا: خط انبثاق أو تكوّن الذات الغربية وتراكم وعيها بذاتها مع تقدم الحداثة، ولكن في نفس الوقت انبثاق الكينونة الغربية الجماعية التي تحولت من كينونة مسيحية خالصة إلى كينونة غربية حداثية دون أن تنفصل تماما عن الثقافة المسيحية التي تحولت فيما بعد إلى ثقافة مسيحية يهودية، لا سيما بعد الإصلاح الديني أو أنها لبثت ثقافة مسيحية ولو بعد عدائها للدين ودخولها في مرحلة ربوبية ثم إلحادية بعد ذلك، أو أنها بقيت ثقافة مسيحية مع عدائها للمسيحية وانفصالها التام عن المسيحية بدليل أننا شهدنا في القرن التاسع عشر بروز تيار “الملحدين المسيحيين”.

وفي كل الأحوال فإن العامل المسيحي بقي حاضرا في الذات الجماعية الغربية وفي الجيوسراتيجية الغربية وفي تمظهرات العلاقة الحداثوية مع العالم سواء في الجانب النظري كالداروينية وباقي النظريات العنصرية ( أنطوان بورو ونظرية البدائية primitivisme في الجزائر)، أو في نصوص فلاسفة التنوير كهيجل وروسو ومونتسكيو وغيرهم كثير جدا الذين عبروا بالمواقف العنصرية تجاه السود وتجاه العرب والإسلام عن هذه المركزية الغربية، أو في الممارسة الغربية عن طريق الموجات الاستعمارية والعنصرية وتجارة الرقيق وتحسين النسل eugénisme والإبادات المختلفة وغيرها.

شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين

The post الحلقة السّادسة: بين الغرب والشّرق (1) appeared first on الشروق أونلاين.