الغزاوية والتمركز حول الوطن

أ.د. فضيلة تركي/ من القضايا التي تثار اليوم بحدة قضية المرأة بين المجال الخاص والعام، فادعت النسوية أن المجال الخاص يقيد المرأة ويحصرها في الوظائف النمطية من إنجاب وتربية، ولا يمكنها من المساهمة في بناء الأوطان والتنمية الاقتصادية. إلا أن خروج المرأة للعمل غالبا ما يؤدي للتقصير عن أداء واجبات الأمومة والتربية، ويؤدي أيضا مع …

فبراير 18, 2025 - 11:49
 0
الغزاوية والتمركز حول الوطن

أ.د. فضيلة تركي/

من القضايا التي تثار اليوم بحدة قضية المرأة بين المجال الخاص والعام، فادعت النسوية أن المجال الخاص يقيد المرأة ويحصرها في الوظائف النمطية من إنجاب وتربية، ولا يمكنها من المساهمة في بناء الأوطان والتنمية الاقتصادية.
إلا أن خروج المرأة للعمل غالبا ما يؤدي للتقصير عن أداء واجبات الأمومة والتربية، ويؤدي أيضا مع الوقت إلى تمركز المرأة حول ذاتها كما حدث في الغرب. فما المراد بتمركز المرأة حول ذاتها؟ وما علاقته بموت الوطن والأمم؟ وكيف تساهم المرأة التي تتمركز حول الفطرة والأمومة في بناء الوطن؟، وهل تعد المرأة في غزة نموذجا يعيد للإنسانية قيمة الأمومة وأهمية بناء الانسان وخاصة بعد الذي حدث في معركة الطوفان؟
تمركز المرأة حول الأنثى وموت الوطن
تحدث المسيري عن تمركز الأنثى حول ذاتها، فبين أن المرأة عندما تتمركز حول ذاتها تخرج من ميثاق الفطرة، فتتضخم ذاتها على حساب عطاء الأمومة والتربية، وتسعى لتحقيقها خارج إطار الأسرة وخارج إطار التجربة التاريخية، «ومن ثم تتحول حركة التمركز حول الأنثى من حركة تدور حول الحقوق الاجتماعية والإنسانية للمرأة إلى حركة تدور حول فكرة الهوية».
ومعنى إعادة تعريف هوية المرأة هو تفكيك الخصائص والأدوار النمطية-بحسب الرؤية النسوية- للمرأة كالأنوثة والأمومة والحياء، ومن ثم الاشتباك مع الأسرة وخلق فجوة عميقة بين الرجل والمرأة، تنتهي إلى الصراع الأبدي ينهما ثم ينكفئ كل واحد منهما على ذاته فيتمركز الرجل حول الذكر وتتمركز المرأة حول الأنثى. وتمركز كل منهما حول ذاته يؤدي حتما إلى الشذوذ.
وتمركز المرأة حول ذاتها يعني أن تنشغل باحتياجاتها المادية فتهوي بها إلى قعر الشهوات، وتؤدي بها إلى العزوف عن دورها الاجتماعي والانساني؛ هذا الدور الذي لم تتخل عنه عبر التاريخ، والذي يضمن الدفء والأمن للإنسانية وينقل الأبعاد القيمية من جيل لآخر.
إن تمركز المرأة حول الأنثى يعني أن تتخلى عن بناء الإنسان والتركيز على الأدوار البرانية في رحلة البحث عن إثبات الذات من خلال الاستقواء والتمكين، فتنتهي رحلتها بموت المجتمع القيمي وفنائه البيولوجي كما يصف أحد المفكرين الغربيين نتائج تمكين المرأة عندهم، فيقول: «سيكون على الأمريكيين في حلف الناتو أن يدافعوا قريبا عن عالم فراغ واسع. وإذا بقيت معدلات الخصوبة الحالية سارية فإن سكان أوروبا سوف يتناقصون إلى 207 مليون نسمة مع نهاية القرن الحادي والعشرين، وهم بذلك أقل بنسبة 30 بالمئة مما هم عليه الآن. وسيكون مهد الحضارة الغربية قد صار قبرا»
والذي يبدو جليا أن تمركز المرأة حول شهواتها وتضخم معاني التمكين في أعماقها يؤديان حتما إلى ضمور معاني الأمومة والانجاب، مما يترتب عليه تراجع النمو الديمغرافي، وهذه علامة على تراجع قوة الأمم والأوطان وانهيار قيم الحضارة.
الغزاوية وبناء الوطن:
وقد جعل الله تعالى قدر موت الأوطان يبدأ من تفكك الأسرة، وتفكك الأسرة يبدأ من تخلي المرأة عن أدوارها الفطرية؛ وفطرة المرأة الأمومة، فلا يمكن الحديث عن المرأة بعيدا عن الأمومة تحت أي ظرف أو مبرر. وحتى لا يتحسس ذوو الأذواق الرقيقة من تقييد المرأة بالأمومة، نقول: كذلك لا يمكن الحديث عن الرجل بعيدا عن الأبوة، فنظام الزوجية الذي يحكم الكون يفرض ذلك. يروي لنا القرآن الكريم أن ناموس الزوجية حكم الأصل الإنساني منذ بداية الخلق في الجنة، وأن أول زوجين كانا أبانا آدم وأمنا حواء عليهما السلام، ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 35].
وقد غرز الله في جبلة كل منهما أدوارا مختلفة؛ لكنها متكاملة تخدم غاية صناعة جيل رسالي يسعى لتحقيق الاستخلاف وبناء الأوطان، لذا فإن وظيفة المرأة محورية في صناعة التغيير الاجتماعي وبناء الانسان من خلال وظيفتها الفطرية «التربية»، تربية الانسان القادر على تحرير الأوطان وبنائها. ومن هنا نفهم الحرب الشرسة على الأسرة والتركيز على المرأة بالذات لإفسادها وابعادها عن دورها في امداد الأوطان بعنصرها الإنساني وتأهيله للتعمير والبناء، ونفهم أيضا سبب استهداف الاحتلال للمرأة الغزاوية في حرب الطوفان بصفة خاصة حتى عدت هيئة الأمم المتحدة بأن «الحرب في غزة هي بلا شك حرب على النساء اللواتي يدفعن ثمنا باهظا لحرب ليست من صنعهن»
هذه الرؤية الإسلامية الفطرية تتعارض مع ما يروج له الغرب والمؤسسات الأممية من اتفاقيات تفرض على الشعوب والمجتمعات الإنسانية رؤيتها وثقافتها التي ترتكز على الاستنقاص من قيمة الأمومة ومحاربة الأسرة وذلك من خلال التركيز على عمل المرأة خارج البيت والذي تتلقى مقابله مقابلا ماديا يساهم في زعمهم بشكل مباشر في التنمية. في حين أن غزة المكان-الوحيد- في العالم الذي تعمل فيه النساء أقل ما يمكن خارج المنزل .
وقد رأينا مدى قوة وصمود المرأة أثناء الحرب، ومدى جدوى التربية الفطرية في بناء الانسان الذي تمكن من هزيمة أعتى القوى العالمية مجتمعة.
والحقيقة أن عمل المرأة البراني ترتب عليه نتائج وخيمة منها: تغيير هندسة المجتمعات المسلمة وضعف الأبعاد الإنسانية التراحمية وتضخم العلاقات المادية التعاقدية، وظهور مؤسسات جديدة دخيلة ومستوردة لا تتوافق مع القيم الإنسانية التي أسسها الإسلام، كرياض الأطفال ودور رعاية المسنين؛ هذه المؤسسات التي تدل على وحشية الغرب وماديته، وتفكك أسره وعلاقاته الاجتماعية، كما تدل على الصراع بين الرجل والمرأة، والصراع بين الأبناء والآباء مما أدى إلى نتائج كارثية على الحضارة الغربية.
وقد بذلت النسوية جهودا جبارة لحرف الغزاوية عن وظيفة الأمومة المقدسة إلا أنها لم تفلح، فزرعت أعدادا مهولة من جمعيات المجتمع المدني والمنظمات النسوية الممولة من خارج فلسطين كلها تسعى لتمكين المرأة اقتصاديا وإعطائها مناصب عمل، ولكنها فشلت بصفة خاصة في غزة. وسر فشلها أن الغزاوية امرأة قرآنية وواعية بمحورية دورها في بناء الانسان القادر على تحرير الأوطان وتحقيق الإقلاع الحضاري للأمة.
ومن هنا تقدم لنا غزة نموذجا آخر يكاد يكون فريدا، وفرادته تكمن في عدم خضوعه للضغوط الغربية في قضايا المرأة والأسرة، فمن خلال معركة الطوفان برزت أهمية هذا النموذج في بناء جيل مقاوم رسالي حيَر العالم، وأعاد لوعيه أهمية قيم الأمومة والشفقة والحنان التي كاد أن يطمسها تغول المادة والاستهلاك والصراع. يقول الدكتور بييربولو وهو مفكر كاثوليكي وأستاذ علم الاجتماع: «إن يسر الرخاء قد خنقنا، ورفاهية الترف هي الآن الشيء الوحيد الذي يؤمن به أي انسان. وصارت أخلاق التضحية من أجل الأسرة-وهي أحد الأفكار الأساسية للمجتمع الإنساني- صارت فكرة تاريخية. إنه لأمر مذهل.»
ففي الوقت الذي تلهث فيه أسرنا وراء جودة الحياة الأسرية من الناحية المادية وتقليل النسل، تسعى الأسر في غزة لتحمل أمانة الاستخلاف وتحقيق مقاصد السماء من خلال تحرير الأوطان ومقاومة الاحتلال، وفي حين تسعى النساء المستلبات لتحقيق الاستقلالية والتحرر من أعباء الأمومة ورمي الأبناء للمؤسسات البديلة كالروضة والمدرسة للقيام بدورها في التربية والرعاية حتى تتفرغ الأم لتحقيق ذاتها خارج البيت، تجتهد الأم الغزاوية لتعد نسلها لتحمل مسؤولية التحرير والمقاومة، فترضع أبناءها الايمان والعقيدة مع الحليب، وتحفظ أنفسهم بالحب والحنان والرعاية، وتزكي عقولهم بمنطق الشريعة والعلم، أما الانجاب فتعد المرأة هي من تزود الانتفاضة بعنصرها الإنساني من خلال ارتفاع عدد المواليد حتى تحمي المجتمع الفلسطيني من الإبادة.
إن انحياز المرأة في غزة للمجال الخاص وقناعتها أن خدمة الوطن وتنمية الاقتصاد تأتي من خلال بناء الانسان الرسالي الذي يتوافق تماما مع ما ينادي به مصلحو الغرب اليوم من ضرورة عودة المرأة للبيت للإنجاب والتفرغ للتربية حتى تتمكن الحضارة الغربية من استعادة شبابها وقوتها بعد أن شاخت وأصبح عدد الأموات أكبر أو مساويا لعدد الولادات، يقول المفكر السياسي بوكانن مبينا أهمية قيام المرأة بدور الأمومة والتربية وبقائها لتنشئة الأبناء في بناء الوطن والأمم :»فإذا كان الأمريكيون يرغبون في حفظ حضارتهم وثقافتهم فيجب على الأمريكيات أن ينجبن المزيد من الأطفال…وقانون الحقوق المدنية يجب أن يعدل ليسمح لأرباب العمل بأن يدفعوا أجورا أعلى للآباء أكثر مما يدفعون للعزاب، لتمكين أحد الزوجين من المكوث في البيت مع الأطفال الرضع وغير القادرين على المشي وأن يكون موجودا عندما يعود الأطفال من المدرسة.»
وعليه يمكننا الاستخلاص أن التجربة الغزاوية ملهمة في جوانبها المختلفة، واليوم هي تعيد صياغة رؤية فطرية لمفهوم العمل وخدمة الأوطان بالنسبة للمرأة، فلا تكون خدمة التنمية والأوطان بإنتاج السلع والمواد الاستهلاكية فقط، وإنما تقوم على انتاج الانسان خاصة وبنائه، ومن هنا فإن التمركز حول الأمومة هو تمركز حول الوطن، والتمركز حول الأنوثة هو هدم للأمم والأوطان.