المشروع الترامبي بالمنطقة
بات واضحا أن العالم صار في ما بين استقراره واضطرابه رهينة السلوك الانتخابي الأمريكي، وما يفرزه من تضاريس في الخيار والاختيار في رئاسياته، وهو ما تكرس أكثر في هذا الظرف القاتم من الاعتصار الدولي على خلفية صراعاته الدبلوماسية، الحربية والاقتصادية، مع انتخاب رجل قليل الدراية بطبيعة الإدارة الدولية للعلاقات خارج منطق الصراعات المباشرة، رجل بثقافة …

بات واضحا أن العالم صار في ما بين استقراره واضطرابه رهينة السلوك الانتخابي الأمريكي، وما يفرزه من تضاريس في الخيار والاختيار في رئاسياته، وهو ما تكرس أكثر في هذا الظرف القاتم من الاعتصار الدولي على خلفية صراعاته الدبلوماسية، الحربية والاقتصادية، مع انتخاب رجل قليل الدراية بطبيعة الإدارة الدولية للعلاقات خارج منطق الصراعات المباشرة، رجل بثقافة تجارية قائمة على حب المال ووسائل الوصول إليه حبا جما، من دون إيلاء أدنى حسابات لعواقب الصدام في حال حيل بينه بين حبه للمال وجمعه وتكديسه، فترامب اليوم خلق، بتصريحاته الغريبة، قلقا دوليا أخلط بيه كل البنى التي قامت على هياكلها التقاليد والأعراف الدبلوماسية والسياسية، ومنها تراسمت الأشكال الإشكالات الجيوبولوتيكية التي توظف في حسابات الصراع، مقوضا بذلك دعائم أحلاف وتكتلات نحتت الملمح الدولي في دوائره الحضارية المختلفة والمتخالفة اليوم.
ومن جملة مقوضات ترامب تلك، كلاسيكية التعامل مع القادة العرب بوصفهم أداة أمريكية وأحجارها على شطرنج السياسة الدولية، إذ باغتهم هذه المرة بقراره المتعلق بمشروع تهجير ساكنة غزة ونقلهم إلى ديارهم بالجوار في كل من مصر والأردن وبعضهم زاد على ذلك صحراء السعودية، الأمر الذي أربكهم عل صعيدي الخطاب والمبادرة، وجعل بعضهم يشير إلى البعض الآخر باعتباره يملك أو لا يملك خطة للتعامل مع الوضع الجديد “ترضي جميع الأطراف” كما قال الملك الأردني عبد الله الثاني وهو يخرج من غرفة الاستقبال السوداء بالبيت الأبيض الأمريكي.
حالة الارتباك هاته التي أشار إليها الدكتور خليل العناني في مقال له بعنوان “الارتباك الإقليمي ومكر التاريخ” المتأتية لا محالة من سوء تقدير الوضع الناجم عن الضعف في إدارة اللعبة الجيوبولتيكية، كنتاج لفقدان بعد النظر من جهة وعدم الإرادة في اللجوء إلى الحكمة لتسوية المشاكل المتصلة بالحقيقة الوطنية وما يعتريها من أزمات داخلية خاصة، تجعلنا هنا نستنطق الحالة من خلال السؤال الاشكالي: كيف يمكن تجاوز فخاخ الاحتواء في الاستراتيجية الدولية بالمنطقة العربية اليوم؟
هكذا إشكالية في عدم القدرة على استباق القرار الاستراتيجي الدولي أو حتى القدرة على التنبؤ به، يدفع باتجاه افتراض أن القدرات الوطنية غير موظفة بكل ما تختزنه من طاقة على صعد الشرعية والفعالية، والذكاء الجمعي، وذلك نتيجة استمرار الدولة العربية بالأساليب القديمة التي لم تعد تجدي في عالم يموج في الصراعات المعقدة ومن خلالها يفرض توظيف كل الطاقات عبر اعمال وسائل العمل السياسي الجيد والجدي والمجدي.
خطر استمرار الأساليب القديمة
أثار الاستقبال الشعبي غير المفهوم من غير الأردنيين أو قسم منهم، للملك عبد الله الثاني إثر عودته من أمريكا، بعد لقائه بالرئيس ترامب، موجهة من ردود الفعل العربية غير الرسمية طبعا، تراوحت بين السخرية، والشفقة والتنديد، والاستفهام، باعتبار أن شيئا إيجابيا لم يتحقق من زيارة العاهل في صالح البلد حتى يخرج الناس بذلك الفرح ملوحين بصور والملك وراية البلد، وسط دوي الزغاريد، والصياح بالشعارات، ما أعطى الانطباع بأن آلية إدارة الازمات في القطريات العربية لا تزال عقيمة ومتوقفة في أسلوبيتها عند عهود بائدة جدا، لا يمكنها أن تستجيب للظروف الحالية.
ففيما بين انتصارات القادة الوهمية وانتظارات الشعوب الأبدية، يتواصل الجمود التاريخي في الزمن العربي يشل وعيه السياسي، ويبطل كل أمل في استحضار آليات التغيير التي من دونها ستظل الازمة الوجودية العربية تعيد انتاج نفسها غير مكترثة بما يحل ويهل على العالم من تبدلات وتحولات.
الاستقبال الاسطوري أو الخرافي للعاهل الأردني من قبل “شعبه” بعد عودته من أمريكا، يثير مسألة غياب الشفافية السياسية بوصف هاته الأخيرة حاجة حيوية لتصحيح الوعي وأداة استيعاب للواقع من دون مؤثرات خاصة، وتبقي السؤال مشتعلا هنا: هل بقي مجال للمضي أكثر على سبيل ديمقراطية الواجهة، على ضوء ما أحدثه قدوم أو بالأحرى عودة ترامب إلى البيت الأمريكي من قرارات هي في جرأتها على تقويض الأساليب القديمة في التعامل مع الوضع بالمنطقة، غير سابقة بمثل؟
إن اختزال العربي المستمر على صعيد الوعي الشعبي وتواطؤ النخبي منه، القدرة على صنع القرار السيادي والسياسي والبث النهائي في مصير الأمة، في شخص المسئول الأول بالبلاد، وصل إلى هرم السلطة بمكينيك قديم (وراثي) لدولة معاصرة أو بوسائل فيها احتيال على آليات الانتقال السياسي والقيادي (تزوير انتخابي)، هو أكبر خلل يضع الامة في موضع أزمة متأزلة، فالنخب الحاكمة عربيا بهذه الوسائل القائمة على التحنيط المتواصل للديمقراطية وجعلها واجهة متحركة في زمن ليس هو بالماضي فيها ولا هي بالحاضرة فيه، يجعل من القدرة على الاستجابة لتحديات الراهن والمستقبل ضعيفة إن لم نقل منعدمة تماما !
الامن القومي العربي والوصاية القديمة
أيضا ما طرحته ظاهرة ترامب من خلال تصريحاته العجيبة التي عاد محملا بها إلى البيت الأبيض الأمريكي، لا سيما ما تعلق منها بالمنطقة العربية الملغمة بمشاكل التاريخ والجغرافيا، هو ذلك التمظهر المقيت لحضور العقل الاستراتيجي – إن جاز وصفه بالعقل والاستراتيجية – للنخب الحاكمة القديمة، فهل حقا سيحمل استمرارها حلولا أو قدرة حتى على مقاومة مشاكل المنطقة اليوم؟
فالسؤال هنا متعلق بأساس المنطقة وشعوبها الوجودي، أي أمنها القومي وفضائها التاريخي الحضاري، فالتهجير الذي استحال اليوم، بقدرة قادر إلى مقترح قابل للنقاش وداع لانعقاد قمة عربية وتنسيق بين الدول، بعد إذ ظل (ولا يزال لدى الأمم الراسخة في التاريخ) مجرد التلفظ به يعد جريمة في حق الانسانية، ويلحق بتعابير معيارية التعبيرية والنمطية، كالتطهير العرفي، والتصفية والتمييز العنصريين، نقل المشكلات العربية نقلة خطيرة في خطابها الفكري والسياسي مرتكسا بها إلى ما قبل 1948 حتى !
والشاكلة التي قابلت بها نخب العرب هذا التحول في استراتيجية الامريكية في إدارة ما يسمى بالصراع العربي الصهيوني، من برودة وعدم اكتراث كبير تفرضه طبيعة التحول الذي يعرفه العالم تحت وطأة صراع الكبار وما يفرزه من تأثر على الملمح الجيوبولتيكي العالمي، باعتبار أن ذلك متعلق في جوهره بفكرة الأمن القومي، يطرح أكثر من علامة استفهام حول واقع الوعي العربي بذاته في أفق هذا الصراع المحموم الذي تتقدم فيه الأمم خطوات كبرى وسريعة.
هذا الفتور بل القتور في الاهتمام النخبي حيال الأمن القومي الذي تعرى من خلاله مستوى الوعي الضئيل به بشكل مزري، هو الذي، بالإضافة إلى كونه يطيل من عمر ديمقراطية الواجهة وما ينتج عنها احتباس الفكر والعمل السياسيين في الزمان والمكان، فإنه ليعزز أيضا من بقاء واستمرار تفكير وتدبير النخب الحاكمة القديمة في هذا المجال، لكون الطبيعة لا تحتمل الفراغ كما يقال، وبالنظر إلى وضعها التاريخي الصعب اليوم، وعدم قدرتها على القيام بالنهضة الوطنية المأمولة من شعوبها، تنأى بها عن التخلف والحاجة للمساعدات الدولية، سوف تعيد هاته النخب الحاكمة فشلها ولكن بدرجات ومستويات ألعن وأخطر هاته المرة على ضوء ما أبدته من ضعف شامل وهو ما يظهر في عدم قدرتها على رفض مجرد الحديث عن شيء اسمه تهجير ساكنة غزة، جملة وتفصيلا وتنقيطا !
مسئولية المعارضة التاريخية
عادة ما تكتفي المعارضة في كل التجارب السياسية القطرية العربية بالمسألة الداخلية، تاركة الشأن الدولي أو الخارجي للبلد للسلط والنخب الحاكمة، بل إنها لا تقوى على أن تطرح، كما هو الشأن في الديمقراطيات الغربية الحديثة منها والعريقة، رؤاها ومواقفها الخاصة بشأن مختلف القضايا الدولية والتي قد لا تتفق في بعض التفاصيل مع الموقف الرسمي، لكن هل يمكنها اليوم على ضوء ما هو حاصل من تطور وظائفي للدولة والمؤسسات الدستورية التي من جملتها الأحزاب المعارضة والموالية على حد، أن تظل بعيدة عما بات يتهدد الأمن القومي للقطريات وللمنطقة ككل، من خلال ما أصبح يطرحه الفاعلون الكبار في المسرح الدولي؟
مجرد هكذا تساؤل لأفق موقف المعارضة العربية حيال أزمنة الأمن القومي، يوضح مدى التأخر الكبير الذي هي واقعه فيه السياسة وطبيعة نشاط الفاعلين فيها عربيا، حيث لا يزال الايعاز بالتحرك سمة هذا نشاط هاته المعارضة التي تفتقد بدورها للعديد من أدوات ووسائل تطوير أدائها السياسي ووظيفتها الاعتراضية التقويمية لمنظومات الحكم وصنع القرار المصير للشعب.
في فرنسا مثلا، وعلى غرار عديد دول الاتحاد الأوروبي، تبرز اليوم منابر المعارضة حافلة بالنشاط السياسي والإعلامي المناوئ لتوجهات وتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهي ذات المعارضة التي كانت قد اختلفت بخصوص ملف العلاقات الفرنسية الجزائرية ومأزق ما هي عليه من أزمة عميقة اليوم، فدوفيلبان الذي كان شرسا في مهاجمة ماكرون حول سياسته حيال الجزائر مؤخرا، منتقدا إياه بشكل عنيف في كل المنابر الإعلامية التي مر بها، هاجم بذات القوة في الآونة الأخيرة، متضامنا مع حكومة بلاده، الملياردير الجنوب افريقي إلون ماكوس على خلفية تصريحاته الداعمة للرئيس الترامب في مواجهة الاتحاد الأوروبي.
مثل دفيلبان وغيره من رموز المعارضة السياسية الفرنسية خصوصا منها اليسارية، تكاد تفتقده الساحة العربية اليوم، حيث صوت المعارضة هلامي كراكوزي، وظيفي ويسهم في افقار العقل السياسي العربي من كل سبل التغذي الحر من واقع التجارب والاحداث الوطنية والدولية، بما يتيح له القدرة على طرح بدائل تنقل البلد والأمة من وضع ما هي واقعة فيه من تخلف وهوان.
أي إصلاح في الأفق؟
إن كل أزمة لا تفرز بالضرورة وسائل حل تتجاوز حدود الراهن لتغدو بالتالي تأسيسا لمنظور جديد في التعاطي مع السياسة وما يلحق بها مفاهيم وعناصر كالأمن القومي، وفعالية المؤسسات وغيرها من الوسائل والمفاهيم، ستكون حتما مؤيدة إلى أزمة جديدة قد تعصف بالوجود الأمني القومي والاقليمي، وعليه يتوجب السؤال اليوم حول أي اصلاح ينبغي اللجوء إليه في أفق تجاوز المرحلة الحرجة التي تكاد الأمة أن تألف حرجها وتتعامل معه بمنطق الأمر الطبيعي والعادي، وهو ما يديم من تخلفها وهوانها وبقائها على هامش حركة التاريخ؟
فالمنطقة جربت كل ما جاد بها خيالها القديم، من تقديمة إلى محافظة، ومن اسلاموية إلى علمانية، ومن مقاومة إلى ممانعة، وهي في كليتها تتم وفق إرادة وأجندة معدتين سلفا، وبهما يتم تحييد العقل النقدي غير المرتبط أو المعتقل من وهم أيديولوجيا أو طوباوية رسمية تديم الفراغ بحشو الخطاب بآمال زائفة ومخاوف كاذبة، ومع ذلك تظهر اليوم عاجزة عن استباق الآخر في وضع تصور لحالها، وحلحلة مشاكلها.
فالإصلاح اليوم يمر اليوم على ضرورة مقاومة المقاومة لدعوى الإصلاح، وليس بالضرورة أن يكون هذا التمنع عن الإصلاح من السلطة فحسب بل حتى من فكر المعارضة بل ومن وعي الانسان العربي نفسه، فينبغي لأزمة مشروع التهجير هاته التي كشفت عن مستويات عميقة من النخر الذي يسكن الجسد الرسمي العربي، بفعل تجاوزه لعمر صلاحيته، وفقدانه للقدرة على الاستمرار في انتاج مبررات بقائه إلا ما سلف منها وأفلس، أن تستحث في المجتمع عبقريته وخاصة إرادته ليفرز نخب معارضة جديدة مستوعبة لطبيعة وحجم هاته الازمة وبما تفرضه تحديات الراهن حيث يرتبط الشأن الداخلي فيه بالخارجي بشكل يكاد يجعلهما غير قابلين للفتق، وهو ما بات متجليا في معترك الازمة الفلسطينية وفصلها الأخير المتعلق بمشروع أمريكي لتهجير ساكنة غزة قسرا.
إذن فقد بات واضحا أن مشكلة التعامل مع الازمة العربية هي اليوم ما غيرة لدى الغير ومتوقفة في الخيال العربي، ومؤتى ذلك استمرار النظم العربية القديمة ونخبها الحاكمة، وعقم ما آلت اليه على مستوى الخيال والقدرة على انتاج الجديد في التاريخ، يقابل ذلك أيضا عقم المعارضة في استحضار بدائل عملية مفضية إلى انتاج آليات التغيير الذي وحده، باعتباره صناعة تُتم وليس بضاعة تُقدم، إذا ما تحقق سيعمل على إعادة طرح مفاهيم أخرى ذات صلة بالأمن القومي كهم أفقي مشترك، يعكس حالة من الوعي الجديد السياسي يتصل فيه بعد الداخل بالخارج عضويا ووظيفيا.
بشير عمري