النخب .. في مواجهة العُصب

أ. عيسى جرادي/ حقيقة .. لا أملك تعريفا محددا لمصطلح «النخبة» .. وقد لا يعني ذلك شيئا كثيرا.. يكفي أنها تعبير عن حالة اصطفاء وصفوة.. قوة تأثير وقدرة على إحداث رجة في الكيانات الخاملة .. إنقاذ وتقدم في مواجهة العجز والتراجع.. ضبط وتحكم وإعادة توجيه في المنعطفات.. صمام أمان وجدار صد ضد الغزوالنفسي والفكري والأخلاقي.. …

مارس 5, 2025 - 16:37
 0
النخب .. في مواجهة العُصب

أ. عيسى جرادي/

حقيقة .. لا أملك تعريفا محددا لمصطلح «النخبة» .. وقد لا يعني ذلك شيئا كثيرا.. يكفي أنها تعبير عن حالة اصطفاء وصفوة.. قوة تأثير وقدرة على إحداث رجة في الكيانات الخاملة .. إنقاذ وتقدم في مواجهة العجز والتراجع.. ضبط وتحكم وإعادة توجيه في المنعطفات.. صمام أمان وجدار صد ضد الغزوالنفسي والفكري والأخلاقي.. صوت صارخ ضد الصمت المتواطئ .. صدع بالحق في وجه الخوف.. ووهج وسط العتمة.
من هنا.. لا نضع قالبا أوإطارا ثم نشير إلى من فيه وندعي أنهم النخبة.. النخبة إفراز لمنسوب وافر من الإيمان الواعي واليقظة في اللحظة الفارقة والحركة في الاتجاه الصحيح.. هي انتفاضة ضمير يقظ وحساس.. ومن الخطإ تعريف النخبة بالمقامات «العلمية».. هذه مجرد ألقاب قد تصلح خزان معلومات.. لكنها لن تكون بحال أساسا لإحداث قوة مواجهة أو مقوما للتغيير.. فجبن «الشهادات» أحيانا قد يكون أنكى من صلف «العصابات».
ليس شرطا أن تكون النخبة جماعة أوتنظيما.. فالنخبة في جوهرها قناعة نضالية دائمة.. قد تكتسب زخما بانضوائها تحت لواء تنظيمي.. لكنها لن تكون التنظيم ذاته.. يكفي صوت واحد صارخ ليحدث الفزع المطلوب.. فقد كان إبراهيم عليه السلام أمة بمفرده.. وفي تاريخنا الإسلامي تصدى الصحابي الجليل أبوذر لما رآه انحرافا عن حقائق الإسلام ونهجه القويم.. فعل ذلك وحده.. وصدع بقولته المشهورة (لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا في سنة نبيه، والله إني لأرى حقا يخبووباطلا يحيا وشرها بغير تقى).
ما الذي يفسر وجود النخب؟
قد تظهر النخبة حيث لا نتوقع أن تكون .. وقد تتوارى حيث نعتقد أنها كائنة.. أوحيث نريدها أن تكون.. ما يبرر وجود النخبة ليس ما تملك.. بل ما يمكن أن تفعل.. وليس عنوانها الكبير.. بل إيمانها وجهدها في تفعيل هذا العنوان.. هنا يكمن الفرق بين النخب الحية والنخب الميتة.. تلك التي تعكس ظلا باهتا لأفراد وكيانات وأسماء يكتنفها العجز والفشل.. ولا تغريها سوى نشوة ما تلقى من حفاوة لفظية.
فكرة التحدي .. هي ما يحفز السياسي والنقابي والحقوقي والمفكر والداعية و(…) .. على الانتقال من حالة الاسترخاء والانتظار إلى وضع التحفز والانقضاض.. بغياب الحافز – على أي نحو- تخمد الفعالية ويقع التخلي.. وتضمر الرغبة في المواجهة.. وتقديري أن النخب هي المضاد الحيوي الذي يفرزه المجتمع تلقائيا حال شعوره بالخطر.. فإذا ما غاب أو غيب.. أمكن الفيروس أن ينتشر ويحدث الضرر.
في دنيا السياسة.. تتحفز النخبة حال الشعور بخطر الاستبداد.. فيمنع الانقلاب على «الشرعية الدستورية».. وعندما تنتهك حقوق العمال تتولى النقابات الاصطفاف ضد التشريعات التي تنتقصهم.. وفي مجال الحقوق والحريات تتجلى النخب بالتصدي لمن يمتهن كرامة المواطن أويسعى في إذلاله.. والنخب «الفكرية» تفعل الشيء ذاته لكن في مربع أخطر وأشرس.. حيث يحتشد الغزاة بكثرة وتتعدد أساليب المكر.. وفي الميدان الدعوي كذلك.. كلما استُهدفت الهوية الدينية للمجتمع.. فيتصدى «الفقهاء» لخصوم الدين ومنتحليه.. وفي التربية والتعليم حين تفقد المدرسة وظيفتها.. أو حين تتحول الجامعة إلى هيكل باهت.
ينشأ ويتجذر الشعور بالمسؤولية لدى النخب.. عندما تحمل في وعيها وضميرها هموم المجتمع وتتخللها أوجاعه.. وحين تتماهى مع قضاياه ومطامحه عن دراية وذكاء.. ولا تنفصل عنه بأية ذريعة.. فتبقى قريبة منه تتحسسه وتمارس دورها في الدفاع عنه والتصدي لمن يمكر به.. ولأنها الأقدر على إدراك الأخطار.. تصبح مطالبة أكثر بتحسس دهاليز الصراع التي قد تخفى على الناس.. وهي تتقدم الصفوف.. قد تسقط بفعل المواجهة لكنها لا تموت.. وقد تقبل التضحية في سبيل أن تنتصر لفكرتها.. بهذه الكيفية تحمي النخب المجتمع.. وتحمي نفسها أيضا من الاستقطاب والتدجين.
متى تنفصل النخبة عن المجتمع؟
لا قيمة لنخب هي عناوين جوفاء.. تخلومن مضامين عملية.. الترف الفكري والدعائي ليس صفة نضالية.. وبعض النخب – أو المحسوبة عليها – قد تختار الاندماج في مشروعات مشبوهة تناقض مصالح المجتمع.. أوتقايض فتاتا بمبادئها المعلنة.. أو حين تفقد الإحساس بهويتها وسبب وجودها.. أوتستثقل أعباء المواجهة.. ومن ثم ينعدم لديها الشعور بالواجب.. فتتحول من سلاح للمعركة إلى نياشين براقة تزين صدور أصحابها.
في المجتمعات الحية.. تتجلى قوة النخب بأن تتحول إلى قوة ردع تحسم المواجهة.. فإذا ما كفت عن أداء هذه المهمة كفت عن أن تكون شيئا في ميزان النخب والنضال.