لم يكن تحامل اليمين المتطرف الفرنسي على الجزائر مجرد موقف سياسي عابر، بل هو امتداد لصراع أعمق ينبعث من تحت رماد التاريخ كلما حاول الزمن طمسه.
فمنذ أن رفرفت راية الجزائر المستقلة في سماء 1962، لم تستطع فرنسا الرسمية، أو بالأحرى تياراتها اليمينية المتشددة، أن تتجاوز مشاعر الخسارة والهزيمة. كيف لها أن تفعل، والبلد الذي كانت تعتبره قطعة من الجمهورية الفرنسية انتزع استقلاله بعد حرب دامت أكثر من سبع سنوات، كلفت فرنسا آلاف القتلى والمعطوبين وفضحت وحشية استعمارها أمام العالم؟ كيف لها أن تتصالح مع ذاكرة استعمارٍ كانت تظنه خالدًا، فإذا به يتحطم على صخرة أبرز ثورة في التاريخ الحديث و مقاومة لم تهزمها قنابل النابالم والأسلحة الكيماوية ولا السجون ولا الإعدامات؟
عقدة الهزيمة والاستثمار في العداء
لم تكن الجزائر مجرد مستعمرة عابرة في التاريخ الفرنسي، بل كانت تُعامَل كجزء من التراب الفرنسي، وظل المستوطنون الأوروبيون فيها، أو ما يُعرف بـ”الأقدام السوداء”، يعتبرونها وطنًا نهائيًا لهم. ولذلك، حين انتزعت الجزائر استقلالها، لم يكن مجرد حدث سياسي، بل كان زلزالًا ضرب عمق الهوية القومية الفرنسية، خاصة في أوساط الجيش، والتيارات القومية المتطرفة، والمستوطنين الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها مجرد لاجئين في وطنهم الأصلي.
لم يكن غريبا أن يظهر هذا الشعور في تصريحات السياسيين اليمينيين. ففي عام 1972، قال جان ماري لوبان، مؤسس “الجبهة الوطنية”، عبارته الشهيرة: “فرنسا خسرت الجزائر، لكنها لم تخسر الحرب”، في إشارة إلى أن المعركة ضد الجزائر لم تنتهِ، بل تغيرت أدواتها. ومنذ ذلك الحين، أصبح العداء للجزائر جزءًا من الخطاب السياسي لليمين المتطرف، يظهر كلما اقتربت الانتخابات، أو كلما احتاج السياسيون إلى شماعة يعلقون عليها أزمات فرنسا الداخلية.
منظمة الجيش السري: عندما صار الإرهاب سياسة
ولم يكن جميع الفرنسيين مستعدين لقبول قرار شارل ديغول بالانسحاب من الجزائر، إذ شعر الكثيرون، خاصة في الجيش، بأن فرنسا تعرضت لخيانة داخلية. ومن رحم هذا الشعور، وُلِدت منظمة الجيش السري (OAS)، التي اتخذت من العنف والإرهاب سلاحًا لإبقاء الجزائر فرنسية بأي ثمن.
نفذت المنظمة مئات العمليات الإرهابية بين عامي 1961 و1962، استهدفت قيادات جبهة التحرير الوطني، والمسؤولين الفرنسيين الذين دعموا المفاوضات والمنشآت الاقتصادية والثقافية مثل حرق المكتبة وتفجير الميناء. ومن أبرز عملياتها محاولة اغتيال الجنرال ديغول عام 1962، حين نصبت له كمينًا في بلدة “كلامار”، لكنه نجا بأعجوبة. كما استهدفت الصحفيين والمؤرخين الذين دعوا إلى الاعتراف بجرائم الاستعمار.
لكن حين فشل مشروعها العسكري الإرهابي، لم تختفِ المنظمة، بل تسرب أعضاؤها إلى التيارات القومية واليمينية المتطرفة، حيث أعادوا إنتاج خطابهم بوسائل جديدة. لم يعد بالإمكان شن حرب جديدة على الجزائر، لكن يمكن شيطنتها، وتحميلها مسؤولية كل مشاكل فرنسا، من البطالة إلى الجريمة والهجرة، في محاولة لإبقاء العداء الاستعماري حيًا.
تحامل لا ينتهي: الجزائر كفزاعة انتخابية
كلما اقتربت الانتخابات في فرنسا، ظهر اسم الجزائر كأنها العدو الدائم الذي يجب مواجهته. ففي عام 2005، صادق البرلمان الفرنسي على قانون يمجد “الدور الإيجابي” للاستعمار، وكأنه يريد إعادة كتابة التاريخ. وحين زار إيمانويل ماكرون الجزائر عام 2017 واعترف بجرائم الاستعمار، أثار ذلك غضب اليمين المتطرف، الذي اتهمه بخيانة الذاكرة الفرنسية.
أما في عام 2021، فقد صرح ماكرون بأن الجزائر “لم تكن أمة قبل الاستعمار”، مما أشعل أزمة دبلوماسية كبرى بين البلدين، ولاقى ترحيبًا واسعًا من اليمين المتطرف، الذي طالما سعى إلى إنكار شرعية الدولة الجزائرية نفسها.
وفي أحدث مثال، خلال انتخابات 2022، استخدم إريك زمور، مرشح اليمين المتطرف، ملف الجزائر بطريقة استعراضية، حيث صرّح بأن “الجزائريين في فرنسا لا يمكن أن يكونوا فرنسيين”، ودعا إلى إعادة آلاف المهاجرين الجزائريين إلى بلادهم. وكأن الجزائر أصبحت “العدو المثالي” الذي يُستخدم لإثارة المخاوف، وكسب أصوات الناخبين القلقين على مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية المختلفة.
بين الماضي والحاضر: هل يمكن كسر الحلقة المفرغة؟
رغم محاولات بعض القادة الفرنسيين، مثل ماكرون، معالجة ملف الذاكرة بموضوعية، إلا أن المصالحة الحقيقية لا تزال بعيدة. لأن جزءًا من فرنسا، وخاصة اليمين المتطرف، لا يريد أن يغفر للجزائر “جريمتها الكبرى”: أنها انتصرت عليهم ذات يوم.
الجزائر الجديدة: سيادة لا تقبل المساومة وانفتاح اقتصادي بعيد عن الوصاية
لم يكن رد الجزائر على تحامل اليمين المتطرف الفرنسي مجرد تصريح دبلوماسي عابر، بل كان تأكيدًا على مرحلة جديدة في العلاقات الدولية للجزائر، مرحلة تُعيد فيها رسم أولوياتها وفق مبدأ السيادة المطلقة والمصالح المتبادلة. البيان الأخير لوزارة الخارجية الجزائرية لم يكن مجرد رد على حملات التشويه، بل إعلان واضح بأن الجزائر الجديدة قد فكّت ارتباطها نهائيًا مع أي طرف لا يحترم سيادتها، وبأنها لن تكون رهينة لعلاقات تكرّس التبعية أو تعيق تحررها الاقتصادي.
ومنذ أن انتهجت الجزائر سياسة الانفتاح الاقتصادي سنة 2019، شهدت تحولات كبرى. ففي عام 2023، حققت الجزائر نموًا اقتصاديًا بنسبة 4.1%، ما يعكس نجاح السياسات الاقتصادية الجديدة التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط والغاز. كما يتوقع الخبراء أن يصل الناتج المحلي الإجمالي إلى اكثر من 200 مليار دولار بحلول 20254، وهو ما يعكس تقدم الجزائر نحو تحقيق التنمية المستدامة بعيدا عن الريع النفطي. في الوقت ذاته، ارتفعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 30% في عام 2022، مع زيادة التعاون مع دول مثل الصين وتركيا وإيطاليا وقطر. وتستمر الجزائر في جذب استثمارات ضخمة، حيث بلغ إجمالي الاستثمارات الأجنبية في البلاد 2.5 مليار دولار في 2022.
تصريحات الرئيس تبون: الجزائر تقرر مصيرها
في هذا الإطار، جاءت تصريحات رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، خلال لقائه الأخير مع الإعلام، حيث شدد على أن “الجزائر لم تعد بحاجة إلى علاقات تُبنى على الإملاءات، بل على المصالح المشتركة”، مؤكدًا أن “الزمن الذي كانت فيه الجزائر تُقاد من الخارج قد انتهى”. وأضاف أن الجزائر منفتحة على كل الشراكات التي تخدم اقتصادها، لكنها لن تقبل أن تكون رهينة لأي طرف يسعى إلى إبقائها في دائرة النفوذ.
كما تسعى الجزائر لتطوير قطاع الطاقة المتجددة، حيث تقدر خططها للوصول إلى 15,000 ميغاوات من الطاقة الشمسية بحلول عام 2035، في خطوة تهدف إلى ضمان استقلالها الطاقي وتحقيق الاستدامة البيئية.
فالرد الجزائري الأخير على الهجمات اليمينية المتطرفة لم يكن مجرد دفاع عن صورة الجزائر، بل كان تأكيدًا على أن الجزائر اليوم ليست تلك التي كانت تُقاد بالإشارات أو تُدار عبر الضغوطات. إنها جزائر تبني اقتصادها بشراكات متوازنة، وتحدد سياستها الخارجية وفق مصالحها، لا وفق إملاءات خارجية. أما أولئك الذين يعتقدون أن بإمكانهم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فهم واهمون لان الجزائر قررت ان تمضي بثبات نحو استعادة دورها الريادي في منطقة غرب المتوسط، ولا تلتفت لمن يريد إبقاءها في الماضي. الجزائر الجديدة قد صنعت تاريخها، وها هي اليوم تقود مستقبلاً واعدًا بقوةٍ وإرادةٍ لا تلين.
الصادق_أمين