دبلوماسية هادئة، طموحات اقتصادية، وهاجس أمني
الباحث: مراد ترغيني جامعة خنشلة تُعدّ الجزائر فاعلاً رئيسياً لا يمكن تجاهله في المشهد الجيوسياسي للقارة الإفريقية، فهي ليست مجرد دولة مجاورة بل شريك ذو وزن استراتيجي وتاريخي. تستند علاقتها العميقة والمتجذرة بإفريقيا إلى إرثٍ تاريخي غني، تشكّل في خضم دعمها لحركات التحرر الوطني، وإلى دورٍ جيوسياسي مؤثر تواصل لعبه حتى اليوم. تتشابك هذه …

الباحث: مراد ترغيني جامعة خنشلة
تُعدّ الجزائر فاعلاً رئيسياً لا يمكن تجاهله في المشهد الجيوسياسي للقارة الإفريقية، فهي ليست مجرد دولة مجاورة بل شريك ذو وزن استراتيجي وتاريخي. تستند علاقتها العميقة والمتجذرة بإفريقيا إلى إرثٍ تاريخي غني، تشكّل في خضم دعمها لحركات التحرر الوطني، وإلى دورٍ جيوسياسي مؤثر تواصل لعبه حتى اليوم. تتشابك هذه الأبعاد التاريخية والسياسية مع أبعاد اقتصادية وأمنية متنامية الأهمية، خاصة في ظل التحديات المعقدة التي تواجه منطقة الساحل وشمال إفريقيا. ولفهم هذه العلاقة المعقدة والمتعددة الأوجه بشكل دقيق، وتقدير أثرها على الديناميكيات الإقليمية والقارية، يستلزم الأمر تفصيلها وتحليلها عبر المحاور الرئيسية التي تُشكّل قوامها.
الإرث التاريخي والعقيدة السياسية الراسخة
ينبع الدور الجزائري في إفريقيا من تجربة ثورتها التحريرية الفريدة، التي جعلت منها بعد الاستقلال منارة وداعماً قوياً لحركات التحرر الوطني عبر القارة. لم يكن هذا الدعم مجرد موقف سياسي عابر، بل تجسيداً لعقيدة راسخة مناهضة للاستعمار والإمبريالية، ومؤمنة إيماناً عميقاً بحق الشعوب في تقرير مصيرها. هذا الإرث التاريخي منح الجزائر مكانة رمزية خاصة واحتراماً واسعاً في الأوساط الإفريقية. وعلى هذا الأساس، بنت الجزائر سياستها الخارجية الإفريقية على مبادئ ثابتة، أهمها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والاحترام المطلق لسيادتها الوطنية، والدفاع المستمر عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو المبدأ الذي يظهر جلياً وثابتاً في تعاملها مع قضية الصحراء الغربية.
الدور السياسي والدبلوماسي الراهن
تواصل الجزائر لعب دور سياسي ودبلوماسي مؤثر في إفريقيا المعاصرة. كعضو مؤسس وفاعل في الاتحاد الإفريقي، تسعى باستمرار لتعزيز قدرة المنظمة القارية على حل النزاعات وتحقيق التكامل، وغالباً ما تتبنى مواقف حازمة تجاه التغييرات غير الدستورية للسلطة، حفاظاً على مبادئ الاتحاد. كما تستثمر الجزائر موقعها وخبرتها للعب دور الوسيط في الأزمات الإقليمية؛ ويظل “اتفاق الجزائر” للسلام في مالي لعام 2015 شاهداً على هذه الجهود، رغم التحديات التي تعتريه حالياً. وتتابع الجزائر عن كثب التطورات في ليبيا والنيجر ومنطقة الساحل عموماً، محاولةً الإسهام في إيجاد حلول سياسية. وفي قلب هذه الدبلوماسية، يبقى الموقف من قضية الصحراء الغربية ثابتاً، حيث تستمر في دعم جبهة البوليساريو والمطالبة بتطبيق قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بتقرير المصير، مما يؤثر بشكل كبير على ديناميكيات العلاقات في منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا.
البعد الاقتصادي والعلاقات التجارية
على الصعيد الاقتصادي، تتجه أنظار الجزائر بشكل متزايد نحو العمق الإفريقي، رغم أن صادراتها الطاقوية لا تزال تتركز تقليدياً نحو أوروبا. تتجلى الطموحات الاقتصادية الإفريقية للجزائر في مشاريع استراتيجية كبرى، مثل مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء الذي يهدف لربط حقول الغاز النيجيرية بأوروبا عبر الجزائر، ومشروع الطريق العابر للصحراء لربط شمال القارة بغربها. تهدف هذه المشاريع إلى تعزيز مكانة الجزائر كمركز إقليمي للطاقة والعبور، وربط اقتصادها باقتصادات دول جنوب الصحراء. وبالتوازي، تبذل الجزائر جهوداً لزيادة حجم تجارتها البينية مع الدول الإفريقية، وتشجيع صادراتها غير النفطية، وتسهيل استثمارات رجال أعمالها في القارة، بما في ذلك فتح فروع بنكية، وذلك بهدف الاستفادة القصوى من الفرص الواعدة التي تتيحها منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) لتحقيق تكامل اقتصادي أعمق وتنويع شراكاتها.
الأهمية الأمنية ومكافحة التهديدات
يشكل البعد الأمني حجر زاوية في علاقة الجزائر بإفريقيا، لا سيما في ظل امتداد حدودها الجنوبية الشاسعة مع منطقة الساحل التي تعاني من عدم الاستقرار. يمثل تأمين هذه الحدود ومنع تسلل الجماعات الإرهابية ومكافحة شبكات الجريمة المنظمة والتهريب تحدياً أمنياً دائماً وهدفاً استراتيجياً للجزائر، التي تمتلك خبرة طويلة ومريرة في مواجهة الإرهاب. ولمواجهة هذه التهديدات العابرة للحدود، بادرت الجزائر بإنشاء آليات للتعاون الأمني الإقليمي، أبرزها لجنة الأركان العملياتية المشتركة (CEMOC) ومقرها تمنراست، بهدف تعزيز تبادل المعلومات وتنسيق الجهود الأمنية مع دول الجوار. وتؤكد الجزائر باستمرار على تفضيل الحلول الإقليمية للأزمات، ورفضها القاطع للتدخلات العسكرية الأجنبية المباشرة في محيطها الجغرافي، إيماناً منها بأن الحلول يجب أن تحترم سيادة الدول المعنية وأن تنبع من داخل القارة.
التحديات والآفاق المستقبلية
تواجه الجزائر في سعيها لتعزيز دورها الإفريقي مجموعة من التحديات المعقدة. داخلياً، يتطلب الأمر موازنة دقيقة بين الالتزامات والطموحات القارية وبين أولويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية. كما أن نجاحها في تعميق اندماجها الاقتصادي في إفريقيا يبقى مرهوناً بقدرتها على تحقيق تنويع اقتصادي حقيقي يقلل من الاعتماد المفرط على قطاع المحروقات. خارجياً، تجد الجزائر نفسها في بيئة إقليمية ودولية تتسم بالمنافسة المتزايدة من قوى أخرى تسعى لتعزيز نفوذها في القارة، بالإضافة إلى التحدي المستمر المتمثل في عدم الاستقرار المزمن في منطقة الساحل وليبيا، والذي يلقي بظلاله مباشرة على أمنها القومي ويتطلب جهوداً دبلوماسية وأمنية متواصلة. إن الحفاظ على مكانة الجزائر وتوسيع نفوذها في إفريقيا يتطلب رؤية استراتيجية واضحة ودبلوماسية نشطة وقدرة على التكيف مع التحولات الجيوسياسية والاقتصادية المتسارعة في القارة.