ذكريات من أيام الطلب.. (مَازُوت)

عبد العزيز بن السايب/ بلاد الشام شديدةُ البرد شتاءً.. فبَرْدُها يتسلل إلى العظام.. كُنَّا نُثقل أبداننا بالثياب الشتوية، ونلف أنفسنا بالبطانيات، لأن تكلفة التدفئة بالصُّوبيا يرهقُ..لغلاء المازوت.. نشتريه عادة من بائع المازوت، الذي يتجول بين الشوارع، وهو راكب عربةً فيها خَزَّان المازوت..يقودها حصانٌ.. مع صوته المرتفع، بنغمة خاصة ومَدٍّ طويل لعارض السكون..: مـــــَـــــازُووووووتْ.. مـــــَـــــازُووووووتْ..»، وهو …

مارس 10, 2025 - 14:36
 0
ذكريات من أيام الطلب.. (مَازُوت)

عبد العزيز بن السايب/

بلاد الشام شديدةُ البرد شتاءً.. فبَرْدُها يتسلل إلى العظام..
كُنَّا نُثقل أبداننا بالثياب الشتوية، ونلف أنفسنا بالبطانيات، لأن تكلفة التدفئة بالصُّوبيا يرهقُ..لغلاء المازوت..
نشتريه عادة من بائع المازوت، الذي يتجول بين الشوارع، وهو راكب عربةً فيها خَزَّان المازوت..يقودها حصانٌ..
مع صوته المرتفع، بنغمة خاصة ومَدٍّ طويل لعارض السكون..: مـــــَـــــازُووووووتْ.. مـــــَـــــازُووووووتْ..»، وهو يضغط بيده على زَمُّورِه اليدوي المميَّز، مع زمارة متقطعةٌ..خاصة به..
ومن المضحكات أني أول ما رأيتُ بائع المازوت ظننتُه بائعَ حليب..رغم الهيئة البعيدة عن إيحاء ذلك.. فلما علمتُ أنه يبيع المازوت ضحكتُ من سذاجتي..
وهؤلاء البائعين قصتُهم قِصَّة..فغالبهم يحاول الغش.. عند الملء..باللعب في العَدَّاد حيث يُكْسَرُ زجاج واجهة العداد غالبا..فيستغل أدنى غفلةٍ أو التفاتةٍ لدفع العداد إلى الأعلى بأصبعه..
أذكر مرة طالبا جزائريا كُنَّا جيرانا..مَرَّ عليَّ مُسَلِّمًا من النافذة حاملا «البيدون» وهو يبتسم قائلا لي: أريد شراء المازوت، لقد سمعت أحدهم يُنادي من قريب..
فخرج وهو يضحك وكنت أدرس في كتاب..
فإذْ بي أسمع السُّبَابَ والشتائمَ..فخرجتُ مُسرعا..فإذ بصديقي يتشاجر مع بائع المازوت..مُحَاوِلًا رَكْلَه وخنقه..فلمَّا سألته عمَّا وقع..!؟ عرفتُ أنه استثارَ غضبَه لعادة الغش عند بيع المازوت..وصديقي إذا استُثِير يُثار إلى أبعد الحدود..
طبعا يمكن شراء المازوت بالسعر الرسمي ودون غش غالبا من محطة بيع المازوت ـ الكازية ـ لكنها بعيدة عن بيتنا..كما يستغرق الأمرُ وقتا طويلا للطابور..مع مشقة حمل «البيدون» المليء بالمازوت..فلا بد له من عربة خاصة لجلبه..
أما الإخوة الذين يستأجرون شقة فغالبا يوجد عندهم خزان كبير في السطح، مُعَدٍّ لِمَلْئِهِ بالمازوت شتاءً..
ولا تخلو عملية الملء تلك من مغامرة..فلا بد من وقوف شخصين مع بائع المازوت..واحد معه في الأسفل، حتى لا يتلاعب بالعداد..فلو تركته وحيدا سيدفع بأصبعه ـ إلا من رحم الله ـ أرقام العداد لتظهر كمية كبيرة غير حقيقة..والثاني في أعلى السطح ليراقب الخزان حتى لا يفيض المازوت منه، الذي يُفرغ بواسطة أنبوب متصل بخزان عربة بائع المازوت بواسطة محرِّك «موتور»..
من الطرائف أن أحد الطلبة الجزائريين..كان يرقب مثل هذه العملية..وبعدما فرغ بائع المازوت من العملية وتمت المجادلة حول السعر . رجع ذلك الصديق إلى الشقة..فإذ به يجد المازوت مفقودا غير موجود..فالخزائن فارغ..
ذلك أن الخزَّانَ موصول بالشقة بواسطة أنبوب نحاسي ينتهي بحنفية مثبتة في بيت الخلاء..بجنب حنفية الماء.. وفي البداية لم نكن نعلم سِرَّ هذه الحنفية في بيت الخلاء التي لا يخرج منها الماء، بل يخرج من جارتها..فتُترك تلك غالبا مفتوحة..نِسيانا وسهوا..
وهكذا كان الأمر..فبينما كان ذلك الصديق ينتظر امتلاء الخزان وهو واقف في الشارع يَرْقُبُ بائعَ المازوت خشية الغش..كان ذلك الأخير..المازوت يَشُقُّ طريقَه بكلِّ يُسْرٍ ورَقْرَقةٍ نحو بالوعة بيت الخلاء..وهكذا تبخرت مئات الليرات..وهربت المازوطات..!؟
ولضيق ذات اليد كنا نفضل الاكتفاء بالثياب الثقيلة عن شراء المازوت..لغلائه..أو الاقتصاد في استعماله..فنُشعلها في النهار، فإذا جَنَّ الليلُ وهجعنا إلى فراشنا أطفأنا الصوبيا، اقتصادا في استهلاك المازوت من جهة.. ومن جهة أخرى تَجَنُّبًا لرائحته الكريهة..ونكتفي بدفء البطانيات..
هذه كانت بعض معاناة الطلاب في الغربة..وليس الأمر قاصرا عليهم بل يُشاركون في ذلك سكان البلد..
ومعاذ الله أن أقصد ذم الشام والندم على العيش فيها..بل الرحلة إليها من أكبر النعم التي منَّ الله تعالى بها عليَّ وعلى غيري من غير حولٍ مِنَّا ولا قوةٍ ولا استحقاقٍ..ولو خُيرت بين كل الخيرات لاخترت تلك العيشة بلا ريب..
وإنما أكتب هذه المقالة..لشحذ همم الطلاب وعدم استسلامهم للصعوبات وقعوصهم للعوائق..
وللنظر بعين الرحمة لمن يبيتون اليوم في ذلك البرد القارس والأمطار المتهاطلة..بلا مأوى ولا وسيلة تقيهم ذلك البرد المؤذي..وقد تخلينا عنهم..فعلى الأقلِّ نَذْكُرُهم بدعوةٍ صادقةٍ، ومعونة سريعةٍ..عسى الله يرفع عنا غضبَه.. وعسيرَ حسابِهِ..