رحلتي مع الشيخ محمد الغزالي (1)
أ.د. عماد الدين خليل(*)/ هناك من المفكرين والعلماء والمؤلفين من يضع بصماته على الجيل التالي ويسهم – بشكل مباشر أو غير مباشر – في تكوين فكره وتشكيل خطابه، وهو يتوجـه بـه إلى جماهير القراء والباحثين… ولقد كان الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – أحد أولئك الذين شاركوا في تكويني الفكري والدعوي، جنبًا إلى جنب …

أ.د. عماد الدين خليل(*)/
هناك من المفكرين والعلماء والمؤلفين من يضع بصماته على الجيل التالي ويسهم – بشكل مباشر أو غير مباشر – في تكوين فكره وتشكيل خطابه، وهو يتوجـه بـه إلى جماهير القراء والباحثين… ولقد كان الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – أحد أولئك الذين شاركوا في تكويني الفكري والدعوي، جنبًا إلى جنب مع مفكرين كبار، منذ خمسينيات القرن الماضي، وطيلة العقود التي أعقبتها.
كان لقائي الأول بفكر الشيخ الغزالي عبر كتابه القيم (تأملات في الدين والحياة)، وهو – كما يدل عليه عنوانه – يسعى عبر مقالاته الخصبة إلى ربط الدين بالحياة، بقدرته المدهشة على تغذية نسغها بثوابته ومرئياته.
لقد كانت قراءتي لهذا الكتاب – الذي تتماشى كلماته مع أسلوب الشيخ المترع بالحيوية والنداوة – بمثابة رحلة عذبة ممتعة في رحاب الفكر الإسلامي، الذي يعرف كيف يلتحم بالحياة، ويغذي صيرورتها المتمخضة دائمًا عن المزيد من التجارب والخبرات.
وفي غمرة اندهاشي واستمتاعي في الوقت نفسه بأسلوب الشيخ المتفجر بالحيوية، كنت أتمنى أن تطول رحلتي مع الكتاب، وألا تنتهي فصوله الخصبة، وأن أمضي لقراءة العشرات غيرها من الفصول.
كانت تلك بمثابة المحطة الأولى للقائي بكتابات الشيخ، ولقد أغرتني بالوقوف عند محطات أخرى من فكره، لا تقل تدفقا وإبداعا.
إن خطاب الشيخ يتميز بحيوية الطرح، وبأسلوبه الرائع الذي يعتمد أروع ما في لغتنا العربية من معايير جمالية، تضعه – والحق يقال – في مقدمة رواد الأدب الإسلامي المعاصر، بما أن هذا الأدب كما اتفق عليه نقاد الإسلامية هو التعبير عن التصور الإسلامي للحياة والوجود والمصير.
وثمة فارق كبير بين نمطين من الكتاب والباحثين يتشبث أحدهما بما يدعونه الأسلوب العلمي الصارم في اللغة التي يعتمدها لكتابة بحوثه، لا تكاد تلمس فيها أية نزعة جمالية تساعد على إيصالها للقراء بأكبر قدر من التأثير والإعجاب، بينما يمضي ثانيهما – والشيخ من بين هؤلاء – إلى كسر الجفاء العلمي الذي يصل لدى البعض إلى حد التيبس الفكري، ويقود بالتالي إلى صرف القراء عن مواصلة القراءة، ويمضي بما تحمله اللغة العربية الشاعرة – إذا استخدمنا عبارة العقاد رحمه الله – لكي يجذب جماهير القراء والدارسين.
وتجيء المحطة التالية مع كتاب الشيخ الذي يحمل عنوان (جدد حياتك)؛ فكأنه امتداد لسابقه من حيث ارتباطه بشرايين الحياة، ومحاولة إعادة بنائها في ضوء كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وكشوف العلماء والباحثين على مدار التاريخ.
الارتباط بالحياة ذلك هو الخيط الذي يشد هذا الكتاب إلى سابقه، وكلاهما يحمل في عنوانه كلمة (الحياة).. إنهما يأتيان بمثابة الرد على الملاحدة والعلمانيين، الذين طالما سعوا إلى فك الارتباط بين الدين والحياة على امتدادها، وحصره في زوايا المساجد والخانقاهات، وتحييده بالكلية عن أية ممارسة يراد منها إعادة صياغة الحياة وفق التعاليم القادمة من السماء.
إنه الخط الفاصل بين العلمانيين والإسلاميين.. أولئك يريدونه دينًا نصرانيا، يمارس طقوسـه بعيدا عن الحياة، عبر امتداداتها السياسية والاقتصادية، وحتى العلمية، وحصره بين المرء وربه، وهؤلاء يريدونه منهج حياة، يسعى لإعادة صياغتها سياسيا واجتماعيا واقتصاديًا وعلميا في ضوء كلمات الله – سبحانه وتعالى – وبرامجه في الكتاب والسنة؛ مما لا يمكن بأية حجة من الحجج فصلها عن الحياة.
(جدد حياتك) هـو بإيجاز شديد مضاهاة لكتاب المربي الأمريكي الشهير (ديــل كارنيجي) في (دع القلق وابدأ الحياة)، الذي يمثل حصيلة خبرة عمـر بكاملـه مـع تجارب الناس المأزومين في الساحة الغربية الذين عايشوا الحضارة الغربية، وذاقوا من ويلات جوانبها السلبية التي مارست طحن آلاف الناس وملايينهم بالقلق والاكتئاب، والهم والغم، بما أنها حضارة قطعت صلتها بالله سبحانه، وفق منظومة لا تكترث للقيم الدينية والإنسانية، فقادت أبناءها إلى الطرق المسدودة، وألجاتهم إلى مراجعة عيادات الأطباء النفسانيين؛ علهم يجدون عندهم الدواء الشافى لما يعانونه من أزمات.
كتاب (دع القلق) الذي انكب عليه جيلنـا في خمسينيات القرن الماضي، والتهم صفحاته التهاما؛ بسبب ربط مؤلفه خبرات الناس وتجاربهم، بشبكة مؤثرة من القصص التي تغري القارئ بمتابعتها بشغف كبير.
ها هو الشيخ الغزالي يتابع هذه الخبرات، ويتابع معها أساليب حلها من قبل المربي الكبير (ديل كارنيجي)، فيجد ثمة تشابها كبيرا، يكاد يكون انطباقًا مدهشا على الحلول الإسلامية لأزمات الناس، وعلى رأسها القلق والخوف والاكتئاب… إلخ في كتاب الله وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.
وما يلبث قلم الشيخ أن يتدفق بالمقارنات المؤثرة، بأسلوبه الممتع؛ لكي يصل في نهاية كل جولة إلى النتيجة نفسها التي خلص إليها (ديل كارنيجي). فكأنه يريد بذلك أن يقول إن معطيات العلم الحديث – في سياقاته كافة – تجيء لكي تتطابق مع ما سبق لهذا الدين أن أكده في كتابه وسنة نبيه – عليه السلام -مصداقا للآية الكريمة: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:٥٣).
مضيت في قراءة (جدد حياتك) بشغف، وأنا أتذكر جملة الخبرات التي قدمها في كتاب (دع القلق وابدأ الحياة)، وأنا أردد مع نفسي: يا سبحان الله على هذا التطابق المدهش بين معطيات هذا الدين وبين الكشوف والخبرات العلمية في العصر الحديث.. ترى هل سيجيء ذلك اليوم الذي سيكشف فيه الغطاء عن هذا اللقاء الحميم بعد أن يكون العلم قد مضى في الشوط إلى غايته به؟!
يتبع
(*) المصدر: كتاب «مئوية الإمام الغزالي.. أضواء على فكره وفقهه، وبحوث في مسيرته الدعوية والإصلاحية»، نشر دار المقاصد للطباعة والنشر.