رحلتي مع الشيخ محمد الغزالي (2)

إنني لأتذكر هنا كتاب الباحث الفرنسي الشهير (موريس بوكاي) (التوراة والإنجيل والقرآن في ضوء المعارف الحديثة)، وكيف أن مؤلفه الذي يقول عن نفسه إنه دخل للبحث في الموضوع الذي استغرق منه حوالي العشرين عاما، بعقل علماني، لا يؤمن بأي دين على الإطلاق، وكيف أنه خلص إلى النتيجة التالية: أن تسعة من عشرة من المعطيات المعرفية …

مارس 10, 2025 - 15:02
 0
رحلتي مع الشيخ محمد الغزالي (2)

إنني لأتذكر هنا كتاب الباحث الفرنسي الشهير (موريس بوكاي) (التوراة والإنجيل والقرآن في ضوء المعارف الحديثة)، وكيف أن مؤلفه الذي يقول عن نفسه إنه دخل للبحث في الموضوع الذي استغرق منه حوالي العشرين عاما، بعقل علماني، لا يؤمن بأي دين على الإطلاق، وكيف أنه خلص إلى النتيجة التالية: أن تسعة من عشرة من المعطيات المعرفية في التوراة المحرفة، بإحالتها على كشوف المعرفة الحديثة تسقط، ويتبين تهافتها، ولا يمر سوى العُشر. وكذلك الحال بالنسبة للأناجيل المحرفة، أما في القرآن الكريم فإن عشرة من عشرة من معطياته المعرفية في الحقول كافة، بإحالتها إلى المعرفة الحديثة، فإنها تمر وتتأكد مصداقيتها.. ثم ما يلبث المؤلف أن يقول إنه لا يمكن لرجل عاش قبل أربعة عشر قرنًا أن ينخل من التوراة والإنجيل معظم دخلها، ولا يمرر سوى العشر في القرآن الكريم، في ضوء خبرة معرفية ستتشكل بعد أربعة عشر قرنا، إلا أن يكون نبيًّا، يتلقى تعاليمه وكتابه من السماء، من مصدر علوي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
(خلق المسلم) كان المحطة الثالثة في لقاءاتي مع الشيخ الغزالي.. وهذا هو الكتاب الثالث الذي يربط فيه الغزالي بين منظومة القيم الخلقية التي دعا إليها هذا الدين، وبين واقع الحياة البشرية عبر تمخضها الدائم.. فكأن هذا الكتاب حلقة مضافة أخرى إلى الكتابين السابقين في الدعوة إلى إعادة بناء الحياة في ضوء التعاليم الإسلامية. والكتاب – أسوة بسابقيه – يتجاوز العرض الفكري الصرف للموضوعات التي يتناولها، بما يفتح فيه من مقارنات وتجارب وخبرات تعرف كيف تربط الفكر بالحياة.. هذا إلى أسلوبه الذي يتميز ببعده الأدبي الذي يزيده عذوبة وحلاوة.
أما المحطة الرابعة فكانت كتابه القيم (فقه السيرة).. والحق يقال، فلقد كان هذا الكتاب لجيلنا في خمسينيات القرن الماضي فتحا كبيرا، وجدنا فيه ضالتنا.. ذلك أنه كان من الدراسات المبكرة التي تجاوزت الصيغ التقليدية الجامدة في التعامل مع السيرة، ورحنا نقرأه بشغف يصعب وصفه، بعد إذ رأينا فيه من التحليلات القيمة، والمقارنات الخصبة، والاستنتاجات الذكية، ما لم نجد عشر معشاره في الدراسات التي سبقته. والغزالي ها هنا أيضًا يعرف بفقهه العميق كيف يربط بين معطيات السيرة وبين الخبرات المعاصرة، فيضع قارئه – وهو يتجول في أروقة السيرة – في قلب العصر. ليس منهجه فحسب، ولكن أسلوبه الذي يقطر جمالية وعذوبة ما يدفع القارئ إلى الارتباط الصميم بفصول الكتاب من بدئه حتى منتهاه.
لقد تجاوز الرجل في كتابه هذا تهاويل القدماء وإسرائيلياتهم المدروسة، كما لاحق انحرافات العديد من المستشرقين التي جاوزوا فيها موضوعية البحث … إلا أن الغزالي هاهنا وقع في المطب نفسه الذي سيطر على دراسات السيرة التي سبقته: المتابعة الزمنية (الحولية) لوقائع السيرة وأحداثها سنة بسنة وحقبة بعد حقبة، رغم أن ذلك يقطع وقائع السيرة، ويخترقها بما هو خارج عن سياقها.. فهو يعرض في السنة والحقبة الواحدة لوقائع تتعلق بالصراع مع الوثنية، وتخترق بأخرى تتعلق بالصراع مع اليهود، أو العلاقات مع الجبهة البيزنطية النصرانية.. وهو يتحدث فيما بين هذا وذاك عن جملة من الخبرات التشريعية، أو الممارسات الاقتصادية، أو الوقائع الاجتماعية.. وكان أحرى به أن يعتمد – بدلا من ذلك – المنهج الموضوعي، الذي يتابع الظاهرة أو العلاقة من بدئها حتى منتهاها؛ لكي تتبين للقارئ ملامحها وسبل صيرورتها، فيمكنه الإمساك بتلابيبها.
على أية حال، قد يكون الرجل معذوراً في منهجه هذا؛ لأنه كان هو المنهج السائد في دراسات السيرة، رغم أنه أضاف الكثير الكثير من الجديد المبتكر في فقه السيرة، ووضع يده على نبضها الأصيل […….].
[…….] وثمة كتابان متميزان في معطيات الشيخ أتيح لي أن أقرأهما بشغف كبير في أخريات القرن الماضي؛ بما أثاراه من قضايا في غاية الأهمية والحساسية، وبما تعرضا له من نقد وبالاستنتاجات القيمة والمقارنات الخصبة التي انطويا عليها.
أول هذين الكتابين هو (مستقبل الإسلام خارج أرضه)، يتابع فيه الغزالي – برؤية خبير – من داخل التجربة نفسها – حركة الدعوة الإسلامية في البيئة الفرنسية، ويؤشر على مظاهر الإيجاب والسلب في بنية هذه الحركة، وبأسلوبه النقدي اللاذع – إذا صح التعبير- يلاحق جملة من الممارسات الخاطئة لدى العديد من الدعاة الإسلاميين في ديار الغربة، والتي انعكست سلبًا على مصائر الدعوة الإسلامية في الساحة الفرنسية، رغم أن هذه الدعوة مضت تشق طريقها وتنداح دوائرها، لكي ما تلبث أن تشكل تحديًا خطيراً للوجود الفرنسي، وخاصة ما رافقها من الزيادة الملحوظة في مواليد المغاربة هناك، يقابلها تناقص ملحوظ في مواليد الفرنسيين؛ بحيث إن أحد الاستنتاجات الإحصائية بخصوص المستقبل تقول إنه في عام 2050 ستتعادل كفة الديموغرافيا في فرنسا بين 50٪ من المسلمين و 50% من الفرنسيين؛ الأمر الذي دفع الأخيرين إلى نشر إعلاناتهم المحذرة على جدران المدن الفرنسية، تقول: نريد أطفالا أيها الفرنسيون!!
ولقد دفع هذا التوجس بعض القيادات العلمانية المتطرفة وعددًا من الصحف ودور النشر إلى تجاوز تقاليدهم العلمانية باتجاه الهجوم على الإسلام والمسلمين، وإلى التمييز العنصري، وملاحقة ظاهرة الحجاب الإسلامي، ووقف الهجرة المغاربية إلى الديار الفرنسية؛ مما دفع عددًا من الكتاب الفرنسيين المعتدلين – مثل سامي نائير وجامبي وآخرين – إلى إدانة هذه الهجمة، واعتبارها نقيضا لتوجهات فرنسا العلمانية التي تسمح بحرية الأديان، وصبوا جام غضبهم؛ بل وسخريتهم، على سياسات الوزارات الفرنسية التي انساقت وراء هذا الإغواء الذي يضيق الخناق على المسلمين. والحق أن النشاط الإسلامي في الساحة الفرنسية أصبح يحتل ثقلاً كبيراً، حدثني عن جانب منه المسؤول الأعلى عن المنظمات الإسلامية عبر دعوة على العشاء في باريس في صيف عام 2001؛ حيث قال إن الاتحادات الإسلامية في عموم فرنسا اتفقت على أن تعمل وفق برنامج موحد؛ لكي توصل صوتها إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية عن طريق هذا المتحدث، وتعرض عليها مطالبها الملحة إذا ما أرادت الحصول على أصوات ملايين المغاربة ممن يقطنون في فرنسا… أي بإيجاز شديد العمل وفق طرائق اللوبي اليهودي، الذي يتحرك في دول الغرب برأي واحد وإرادة واحدة.

(*) المصدر: كتاب «مئوية الإمام الغزالي.. أضواء على فكره وفقهه، وبحوث في مسيرته الدعوية والإصلاحية»، نشر دار المقاصد للطباعة والنشر.