العدل بين الأبناء

د. علياء العظم */ حدثتني قريبة أن ابنها الأصغر اشتكى عدم العدل في المصروف اليومي بينه وبين أخيه الأكبر، وأخبرتني أنها عالجت الموضوع بحوار هادئ معه؛ عددت الحاجيات المستجدة للابن الذي صار في الجامعة، من مواصلات، وطعام وشراب، وصرفيات أخرى متوقعة، ثم طلبت من الابن الأصغر ذكر حاجياته وهو طالب في المدرسة، فلم يتذكر إلا …

مارس 10, 2025 - 12:08
 0
العدل بين الأبناء

د. علياء العظم */

حدثتني قريبة أن ابنها الأصغر اشتكى عدم العدل في المصروف اليومي بينه وبين أخيه الأكبر، وأخبرتني أنها عالجت الموضوع بحوار هادئ معه؛ عددت الحاجيات المستجدة للابن الذي صار في الجامعة، من مواصلات، وطعام وشراب، وصرفيات أخرى متوقعة، ثم طلبت من الابن الأصغر ذكر حاجياته وهو طالب في المدرسة، فلم يتذكر إلا بعض التسالي، وقالت أنه بعد أن فهم الأمر تعاطف مع أخيه، واقتنع تماماً بوجود العدل بينهم رغم عدم المساواة، إلى درجة أنه عرض مساعدة أخيه من مصروفه.
العدل بين المساواة والتمييز:
هل دوماً العدل لا يعني المساواة، أم أنه أحياناً هو عين المساواة؟!
أتى النعمان بن بشير رسول الله ﷺ يخبره أنه نحل ابنه (يعني النعمان) نحلة (أعطية) -قيل إنها بستان ليعمل به- فسأله ﷺ: «يا بشير ألك ولد سوى هذا؟ قال: نعم، قال: أَكُلَّهم وهَبْتَ له مثل هذا؟ قال: لا، قال: «فلا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور»، (البخاري ومسلم)، وعن أنس بن مالك، أن رجلاً كان جالسًا مع النبي ﷺ فجاء ابن له، فأخذه فقبله، وأجلسه في حجره، ثم جاءت بنيّة له، فأخذها فأجلسها إلى جنبه. فقال النبي ﷺ: «فما عدلت بينهم». (البيهقي في شعب الإيمان بسند حسن).
بعد التأمل في المواقف الثلاثة يبدو أن المساواة اللازمة بين الإخوة لتحقيق العدل تكون في الهبات والهدايا والأعطيات المادية، وفي الأمور المعنوية من حضن وقبلات واهتمام وغيرها، بينما يكون العدل في التمييز في النفقات التابعة للحاجيات المرحلية لكل من الأبناء.

ما أثر وجود العدل أو غيابه بين الأبناء؟
عندما ينشأ الأبناء في بيئة يكتنفها العدل تتكون شخصيات متوازنة مستقرة، تشعر بالحب والأمان، وبالانتماء لكيان الأسرة، فتحرص على سلامة تلك الأسرة، وتقوم بالبر بعفوية وحب، وينشأ التآلف بين الإخوة، فيتعاونون في أمور الحياة، ثم يتعدى أثر الأبناء إلى المجتمع فيعدل الواحد منهم مستقبلا في أسرته، وفي عمله، وفي معاملاته.
أما غياب العدل فيعني وجود طرف ينال عطايا مادية أو معنوية أكثر من الآخر، وإن التأثير النفسي سيكون على كليهما؛ الأول قد يشعر بالأنانية، وقد يمارس الاستعلاء على إخوته، وربما يتنمر عليهم، مما يبني عداوة بينهم في الطفولة، وقد تمتد تلك العداوة للكبر، كما أنه ربما يمارس الأنانية في حياته المستقبلية، في أسرته المستقبلية، وفي مراحل الدراسة والعمل، أما الطرف الأضعف فإنه بداية في طفولته سيشعر بالألم، وربما يشعر بالنقص وبضعف ثقته بنفسه، وبالإحباط، ومع الأيام وتكرار الشعور بالتفرقة ربما يظن بأن والديه لا يحبانه، وقد ينشأ لديه شعور بالغيرة من أخوته، وقد يتطور ذلك الشعور ليصل إلى الحسد والحقد، وربما يتطور ليصل إلى حالة الشحناء ومحاولة الكيد والأذى لهم، وربما يصل إلى الانحراف النفسي السلوكي والاجتماعي، وأحياناً إلى الجريمة.
أما في علاقته مع والديه فربما توصله تلك المعاملة إلى العقوق، أو يقوم بسلوك البر مخافة الله، ولكنه يفتقد المحبة القلبية لهم.
ومما يجدر ذكره أن غياب العدل بين الأبناء ينعكس على الآباء أيضا، وأول أثر هو غضب الله تعالى، ثم مظنة العقوق من أبنائهم، وتفكك الأسرة، وربما يصل إلى قطيعة الأرحام لا سمح الله

لماذا يمارس الآباء عدم العدل مع أبنائهم؟
غالبا يتم التمييز بسبب الجهل بعواقب هذا التمييز وأثره على الأبناء في حاضرهم ومستقبلهم، وكذلك الجهل بالجزاء الأخروي، كما قد يكون بسبب غياب الوعي الذاتي بالدوافع التي تؤدي لهذا التمييز، مثل الميل لأحد الأبناء لمميزات به، أو النفور من أحدهم لسمات في شخصيته، أو بسبب ميل الزوج لزوجة دون أخرى حين تعدد الزوجات، وربما بسبب الانجراف وراء معتقدات، وانفعالات غير سليمة، مثل تمييز الذكور عن الإناث أو العكس، وغيره.
وأخيراً..
إن تحقيق العدل بين الأبناء يحتاج إلى تقوى من الآباء ورحمة منهم في الدرجة الأولى، ثم إلى قاعدة من العلم الشرعي والنفسي، كما يحتاج إلى الإرادة الجازمة، والمتابعة الدائمة، لإخراج أجيال سوية تشعر بالأمن، وتنشر الخير في الأمة.
* كاتبة -الاردن