رحيل الأخضر حامينا صانع المجد السينمائي
الباحث/ مراد ترغيني جامعة خنشلة في تاريخ السينما العالمية، هناك أسماء لا تُذكر إلا مقرونة بالإنجازات الخالدة والتحولات الفنية العميقة. ومن بين هذه القامات الشامخة يبرز اسم المخرج الجزائري الكبير محمد الأخضر حامينا، الذي لم يكتفِ بتأسيس ملامح السينما الجزائرية المستقلة فحسب، بل حفر اسمه بحروف من …

الباحث/ مراد ترغيني جامعة خنشلة
في تاريخ السينما العالمية، هناك أسماء لا تُذكر إلا مقرونة بالإنجازات الخالدة والتحولات الفنية العميقة. ومن بين هذه القامات الشامخة يبرز اسم المخرج الجزائري الكبير محمد الأخضر حامينا، الذي لم يكتفِ بتأسيس ملامح السينما الجزائرية المستقلة فحسب، بل حفر اسمه بحروف من ذهب في سجلات السينما العالمية بفيلمه الأيقوني “وقائع سنين الجمر” (Chronicle of the Years of Fire)، الذي توج بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1975، ليصنع بذلك سابقة تاريخية لم تتكرر لفيلم عربي أو إفريقي حتى يومنا هذا.
المخرج.. مؤرخ السينما الجزائرية
محمد الأخضر حامينا ليس مجرد مخرج، بل هو مؤرخ بصري، وراوٍ ملحمي تفرد بقدرته على ترجمة الأوجاع والأحلام والتضحيات الكبرى للأمة الجزائرية على الشاشة الفضية. منذ باكورة أعماله “رياح الأوراس” (1966) الذي نال جائزة أفضل عمل أول في كان، أظهر حامينا التزاماً راسخاً بقضايا بلاده، وبحثاً فنياً عميقاً عن الهوية الوطنية في أعقاب الاستقلال. أعماله لم تكن مجرد أفلام، بل كانت وثائق فنية، شاهدة على فترة حاسمة من تاريخ الجزائر، تجسد صراع شعب من أجل الحرية والكرامة.
“وقائع سنين الجمر”: ملحمة المقاومة والإنسانية
يُعتبر فيلم “وقائع سنين الجمر” بلا منازع ذروة مسيرة حامينا الفنية، وتحفة فنية تخلد الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري. يمتد الفيلم على مدار ثلاث ساعات، ويأخذ المشاهد في رحلة زمنية ملحمية تغطي الفترة ما بين عام 1939 واندلاع الثورة الجزائرية في 1954. لا يكتفي حامينا بسرد الأحداث التاريخية الكبرى، بل يغوص في تفاصيل الحياة اليومية للفلاحين والعمال البسطاء، متتبعاً أثر الاستعمار على حياتهم، وكيف تتحول شرارة الوعي إلى لهيب ثورة شاملة.
الفيلم ليس مجرد توثيق للأحداث، بل هو لوحة فسيفسائية غنية بالشخصيات المعبرة، كل منها يمثل شريحة من المجتمع الجزائري آنذاك. يعكس حامينا ببراعة المعاناة الإنسانية، اليأس الذي يسبق الأمل، والشجاعة التي تولد من رحم القهر. الكاميرا هنا ليست مجرد أداة تسجيل، بل هي عين راصدة تنقل بصدق وقسوة أحياناً، جمال الأوراس وروحه، وقبح الاحتلال ووحشيته. السيناريو المحكم، التصوير السينمائي الأخاذ الذي يلتقط أدق التفاصيل في المشهد الطبيعي والبشري، والموسيقى التصويرية المؤثرة، كلها تضافرت لتنتج عملاً فنياً متكاملاً يتجاوز حدود السرد التاريخي ليلامس الروح الإنسانية.
السعفة الذهبية: اعتراف عالمي بعبقرية جزائرية
الفوز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان، لم يكن مجرد جائزة عابرة لفيلم، بل كان تتويجاً لمسيرة سينمائية جزائرية واعدة، واعترافاً عالمياً بعبقرية محمد الأخضر حامينا وقدرته على إنتاج عمل فني رفيع المستوى يحمل رسالة إنسانية وتاريخية عميقة. لقد وضع هذا الإنجاز السينما الجزائرية على الخريطة العالمية، وأثبت أن القصص القادمة من “الجنوب العالمي” تستحق أن تُسمع وتُشاهد، وأنها قادرة على المنافسة على أعلى المستويات الفنية. لقد كان الفيلم بمثابة صوت الجزائر الحر، الذي اخترق صخب الساحة الدولية ليروي حكايته بصدق وموضوعية فنية.
إرث لا يمحى
اليوم، وبعد عقود من إنجاز هذا العمل الخالد، يظل محمد الأخضر حامينا منارة للسينما الجزائرية والعربية. “وقائع سنين الجمر” ليس مجرد فيلم يُعرض، بل هو درس في التاريخ، وعبرة في الصمود، وتحفة فنية تذكر الأجيال المتعاقبة بتضحيات الأجداد. إنه شاهد على أن الفن عندما يتجذر في أرض الواقع ويستلهم من قضايا الشعوب، يصبح قوة لا تُقهر، قادرة على تشكيل الوعي وإلهام الأمل، وتخليد صفحات مشرقة من النضال الإنساني. إن إرث حامينا، وتحديداً “وقائع سنين الجمر”، يظل بصمة لا تمحى في جبين السينما، تتلألأ كنجمة ذهبية تروي حكاية أمة صنعت مجدها من جمر التضحيات، فرحم الله فقيد الجزائر والأمة العربية والسينما العالمية.