شهادة.. بشير محمد السوسيولوجي الغائب الحاضر

ها هي فاجعة أخرى تحل بالجامعة الجزائرية بفقدان البروفيسور وعالم الاجتماع والأنثروبولوجيا بشير محمد، أحد أهم أعلام وأعمدة علم الاجتماع في الجزائر.لم أفكر أبدا أني سأكتب عنك أستاذي وأنت غير حاضر معنا، الحاضر الغائب، نتحدث عنك بضمير الغائب، أكتب عنك ولأول مرة لا تقرأ ما سأكتبه. فبرحيل الأستاذ بشير محمد تفقد الجامعة الجزائرية وتخسر أحد …

مارس 24, 2025 - 05:51
 0
شهادة.. بشير محمد السوسيولوجي الغائب الحاضر

ها هي فاجعة أخرى تحل بالجامعة الجزائرية بفقدان البروفيسور وعالم الاجتماع والأنثروبولوجيا بشير محمد، أحد أهم أعلام وأعمدة علم الاجتماع في الجزائر.لم أفكر أبدا أني سأكتب عنك أستاذي وأنت غير حاضر معنا، الحاضر الغائب، نتحدث عنك بضمير الغائب، أكتب عنك ولأول مرة لا تقرأ ما سأكتبه. فبرحيل الأستاذ بشير محمد تفقد الجامعة الجزائرية وتخسر أحد أهم أعلامها في مجال علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، تخسر نبعاً دافعاً للعلم والمعرفة والأبحاث بدون كلل أو ملل، تفقد الباحث والأستاذ والأكاديمي والإنسان. رحل بشير محمد تاركاً وراءه العديد من الأبحاث والاستطلاعات والدراسات السوسيولوجية.
لقد فارقنا الأستاذ تاركاً وراءه ذكرى طيبة وسيرة عطرة وميراثاً من العلم والمعرفة، ما يؤكد لنا أن العطاء والتضحية في الدنيا سر من أسرار الخلود بعد الوفاة خاصة إذا ما تعلق الأمر بالعلم، وهو سر شهدناه في الأستاذ كنمط لحياته، ولهذا السبب فإنه لن يموت بفكره وبما قدمه لنا من عطاء. رحل جسدا ولكنه روحه باقية بين كتبه وأبحاثه وفي صدى ندواته ومحاضراته، باقية في عقول طلبته خاصة وكل من عايشه. قامة معرفية منيرة من كبار صانعي العلم والمعرفة إنتاجا وتحليلا وبحثا منهجيا ينير دروب أجيال مختلفة ومتتالية من الطلبة في حياته وحتى بعد وفاته. درس المجتمع الجزائري فأبدع في وصف مشكلاته بمنهجية وموضوعية خاصة ما تعلق منها بالثقافة المحلية.
علمتنا الحديث دائما بموضوعية وبلغة علمية، لكني اليوم لا أملك تلك اللغة للحديث عنك وإنما اخترت لغة أخرى أستاذي، لغة طالب قلبه يعتصر ويكاد ينفطر ألماً وحزنا لفقدان أستاذه الذي تبناه وكان القدوة الأولى له والمثل الأعلى والمرجع الذي يرجع إليه ويستند عليه في كل خطوة يخطوها. لغة تعزز الروابط العاطفية والروحية التي كانت تجمع الأستاذ بطلبته من خلال تواضعه، لغة امتنان وعرفان واحترام وتقدير، لغة حيادية موضوعية صادقة خالية من المجاملات، لغة المعرفة والذكرى للأستاذ بشير محمد وأنا التي لم أفكر يوماً أنه سيأتي يوم أكتب فيه هذه الكلمات وأنت غائب في منزلتك الأخيرة التي اختارها الله عز وجل لك في هذا الشهر المبارك، وبالمقابل لم أكن لأتحدث لو لم تكن موجوداً حاضراً في حياتنا كطلاب للعلم والمعرفة وأنت ذلك القائد الذي رسم لنا بصدق الطريق ووضع لنا خطة ومنهاجا نسير عليه للوصول إلى الهدف المنشود، وفعلا كان ذلك. أكتب عليك والعين تدمع والقلب يعتصر حزناً وألماً وخوفاً وفزعاً من تهاوي أعمدة علم الاجتماع في الجزائر.
حزن وخوف لا يذهبه إلا الإيمان بقضاء الله وقدره وإيماننا أن كل نفس ذائقة الموت وأن الله عز وجل أرحم بعباده منا رغم الأثر والفراغ الرهيب الذي تركه رحيله في نفوس طلبته وزملائه وكل محبيه.
أتذكر أول لقاء لنا مع الأستاذ بشير محمد كطلبة سنة 1998 أول دفعة في قسم علم الاجتماع بجامعة تلمسان، أين كان الأستاذ أحد مؤسسي القسم رفقة الأستاذ مزوار بلخضر. كان بسيطاً متواضعاً خلوقاً منضبطاً في عمله صارما حينما يتطلب الأمر ذلك، جعلنا نحب علم الاجتماع ونتمعن فيه ونتفوق، كان باحثاً متمكناً، مرجعاً وموسوعة علمية ومعرفية بوصفه عالم اجتماع وأنثروبولوجيا يعيش مشاكل مجتمعه في رحلة بحث لفهمها وتفسيرها وإيجاد حلول لها، كان متفانيا كل التفاني في عمله لا يفوت محاضرة إلا للضرورة القصوى ولا يخرج منها إلا بعد انتهاء الوقت المحدد لها، أكاديمي بمعنى الكلمة، لم يقم أبدا بمجرد التلقين النظري لأبجديات السوسيولوجيا للطلبة وإنما عمل جاهدا على تكوينهم.
الأستاذ بشير محمد أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، أحد مؤسسي شعبة علم الاجتماع في جامعة تلمسان، المؤسس العلمي لشعبة الليسانس في الأنثروبولوجيا نظام LMD بجامعة تلمسان، مؤسس ومشرف علمي على تكوين ماستر ودكتوراه في علم الاجتماع تخصص التنمية البشرية، رئيس قسم علم الاجتماع سابقاً، رئيس المجلس العلمي للكلية من 2013 /2017، مدير مخبر لمؤسسة الصناعية والمجتمع في الجزائر من 2011/2020، قام بالإشراف على ما يقارب 14 رسالة ماجستير منجزة، الإشراف على رسائل الدكتوراه المنجزة 23 رسالة دكتوراه. الكتب العلمية المنجزة: مدخل لدراسة علم الاجتماع في الجزائر ما بين 1972-1982 (1994)، الثقافة والتسيير في الجزائر ((2007)، مقدمة في علم الاجتماع العام من خلال فكر غي روشي (2009)، جمال غريد السوسيولوجي والأنثروبولوجي صاحب الثنائية الثقافية2017، علماء اجتماع التنظيمات والعمل في الجزائر الرعيل الأول ط1 2018، علماء اجتماع التنظيمات والعمل في الجزائر الرعيل الأول ط2 2019، دراسات وأبحاث في سوسيولوجيا التنظيمات والعمل في الجزائر مرفق بمقالات 2021. نظم وشارك في العديد من الندوات والملتقيات الوطنية والدولية.

اهتم الأستاذ بشر محمد بإشكالية السوسيولوجيا المحلية والتي اشترك فيها مع الأستاذ عبد القادر لقجع، كما اهتم بدرجة كبيرة بإشكالية الثقافة والحداثة المحلية في الجزائر والوطن العربي. حاول مناقشة خصوصية الموضوع للتوجه السوسيولوجي المهيمن ومن ثم الوضعية الراهنة لعلم الاجتماع في الوطن العربي. من خلال مسألة محدودية نسخ المفاهيم.كان يرى أن جل علماء الاجتماع في العالم العربي حاليا يتفقون على أن وضعية علم الاجتماع في توجهه المهيمن لم يستطع مواكبة التحولات الجارية مما أصبح يطرح حيرة وتساؤلات مختلفة. وكان يؤكد أن مواقف بعض الباحثين واتجاهاتهم خاصة في دراسة وفهم علم الاجتماع في الجزائر والوطن العربي يمكن وصفه بالوظيفي أو الوضعي الذي ترجم لما اصطلح عليه “بنظرية التحديث” نظرا لطبيعته الإجرائية.لقد نبه على التباين في المواقف الابستمولوجية اتجاه التسمية المناسبة لموضوع البحث الاجتماعي في الجزائر. استند إلى فكرة رئيسية مفادهاأنه من الضروري حين نرسم سبل البحث الأنثروبولوجي في الجزائر التعبير ليس فقط عن خصوصية الموضوع بل أيضا عن خصوصية الطريقة العلمية. كما أشار محمد بشير على لسان ندير معروف في لقاء معه إلى قياس مدى قابلية نسخ بعض البراديغمات، ومدى قدرتها على فهم واقعنا المحلي، باعتبار هذه الأخيرة هي نتاج فضاءات ثقافية مغايرة فكان يطالب دائما بضرورة الاستماع للمجتمع وفهمه قبل دراسته. وعليه يتفق معظم الباحثون – حسبه- على قصور المفاهيم المنسوخة من الغرب في استقراء واقع المجتمعات المحلية ومنها الجزائر. كان يؤكد دائما على مدى التقصير الكبير بخصوص التراكم العلمي الذي تعاني منه العلوم الاجتماعية بعامة في الجامعة الجزائرية. والذي يحول دون تكوين تراث علمي يبين مدى درجة التقدم التدريجي، والذي يصعب من مهمة القيام بالبحث العلمي.
اهتم الأستاذ بشير محمد بإشكالية الحداثة والثقافة المحلية منطلقا من مسلمة أنه ليس هناك حداثة واحدة كونية أو عالمية، وإنما هناك حداثات مختلفة من منطلق أن لكل مجتمع حداثته الخاصة، والحداثة الغربية ماهي إلا نموذج لحداثة بنيت انطلاقا من خصوصية تلك المجتمعات. أين كان يؤكد على أهمية التحقيقات الميدانية في مجاراة التغيرات التي تحدث في المجتمع. بشير محمد من علماء الاجتماع الذين حاولوا إرساء أسس لسوسيولوجيا وأنثروبولوجيا محلية قائمة بالدرجة الأولى على خصوصية المجتمع الجزائري المحلي متجاوزين فكرة الكونية في السوسيولوجيا باعتبار أن هناك كونيات متعددة وليس كونية واحدة وانطلاقا من إيمانه بأن السوسيولوجيا هي علم محلي لا كوني.
لم يكن هذا إلا اختصار شديد جدا والذي لا يشكا سوى نقطة حبر في بحر ما حققه للعلم والمعرفة في الجزائر. فلتنم بسلام في رحمة المولى عز وجل، تغمدك الله بواسع رحمته وجعل ما قدمته لنا من علم ومعرفة ذخرا لك. فعلا يموت الرجل ويبقى الأثر الطيب.

أ.د.وسيلة عيسات / جامعة طاهري محمد بشار