طوفانُ القِـــيَم
د.خديجة عنيشل/ أثبتت المقاومةُ الفلسطينيةُ في غزةَ أنها لم تتفوّق عسكرياً واستخباراتياً وإعلامياً فقط بل تفوّقت أخلاقياً أيضاً.. لم يحدث أن خرجَ أسرى عند طرفٍ تعرَّضَ لأشنعِ أنواعِ القصف والتقتيل بهذا الشكل المُبهر الذي ظهرَ فيه أسرى العدوّ الصهيوني وهم بكاملِ صحتهم الجسدية وأناقتهم الشكلية!! لقد كانت صورُ تسليمِ الأسرى من آياتِ المقاومةِ الصامدة البطلة …

د.خديجة عنيشل/
أثبتت المقاومةُ الفلسطينيةُ في غزةَ أنها لم تتفوّق عسكرياً واستخباراتياً وإعلامياً فقط بل تفوّقت أخلاقياً أيضاً.. لم يحدث أن خرجَ أسرى عند طرفٍ تعرَّضَ لأشنعِ أنواعِ القصف والتقتيل بهذا الشكل المُبهر الذي ظهرَ فيه أسرى العدوّ الصهيوني وهم بكاملِ صحتهم الجسدية وأناقتهم الشكلية!! لقد كانت صورُ تسليمِ الأسرى من آياتِ المقاومةِ الصامدة البطلة التي ثبتت في الحرب وانتصرت في السّلم برغمِ غدرِ الصهاينة ووحشيّتهم وإمعانهم في الإجرام. وقد جاء في بيان حماس عقبَ إطلاق سراحِ بعض أسرى المحتل: « إن الحالةَ الجسديةَ والنفسيةَ الجيدةَ التي يظهرُ بها أسرى العدو تُثبتُ قِيَمَ مقاومتنا والتزامَها الأخلاقيَّ تجاه الأسرى، بينما يرتكبُ الاحتلالُ أبشعَ الانتهاكاتِ بحقِّ أسرانا في السجون»
لقد أظهرت المقاومةً أنصعَ صُورِ المسلم في أخلاقِهِ وثباتِهِ على القيم التي يدعو إليها دينُهُ الحنيف؛ فالقرآنُ يوصي بالأسير {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}.. والنبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم كان يتفقَّدُ الأسرى بنفسه يُحرِّجُ في حقِّهم ويوصي بهم كما ورد في الحديث عن أبي عزيز-أخو مصعب بن عمير-: كنتُ في الأسرَى يومَ بدرٍ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استوصوا بالأسارَى خيرًا وكنتُ في نفرٍ من الأنصارِ فكانوا إذا قدَّموا غداءَهم وعشاءَهم أكلوا التمرَ وأطعموني البُــرَّ لوصيةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» (حديثٌ حسن). إن عقيدةَ المسلم قائمةٌ على {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} وقد اُبتليتِ المقاومةُ ابتلاءً شديداً قاسياً كان من الطبيعي أن يكونَ في مقابلهِ غِلظةٌ وشِدَّةٌ مع أسرى العدو، أو تهديدٌ ووعيدٌ باستهدافهم ولكنَّ أخلاقَ الإسلام انتصرت في نفوسِ رجالِ المقاومة الذين ظهروا للعالَمِ كأنهم من طينةٍ أخرى غير طينة البشر، لقد أفرجوا عن الأسير كيث شمونسل سيغال (65 عاما) الذي يمتلكُ إضافةً إلى جنسيةِ الكيان الصهيوني جنسيةً أمريكيةً، فاجتمعَ فيه الانتماءُ إلى أكثرِ دولِ الإجرامِ والعدوانِ والقتل ومع ذلك خرجَ هذا الأسير مُفعماً بالصحة وهو الذي كان يُعاني من أمراضٍ عدة حسب بيان حركة المقاومة الإسلامية(حماس) التي أكدت «حرصَها على توفير الرعايةِ الصحية للأسير رغم الظروف القاسية» !!!
ونقلت المقاومةُ الأسيرين الصهيونيين (ياردن بيباس) و(عوفر كالدرون) في مدينة خان يونس جنوب قطاعِ غزة على متنِ عربةٍ عسكريةٍ غنِمَها أبطالُ القسّام من جيشِ الاحتلال، واعترفَ الإسعافُ في دولةِ العدوِّ بأنَّ الأسيرَينِ في صحةٍ جيدة وكان تسليمُهما ضربةً قاصمةً للوجودِ الصهيوني الذي يعتاشُ على الدماءِ والجماجم والخراب، وظهرَ حقُّ الإسلامِ الحنيف وزَهَقَ باطلُ الصهيونيةِ المُجرمة إن باطلَها كانَ زَهوقا.
مخطئٌ وواهمٌ من يظنُّ أن طوفانَ الأقصى حدثٌ داخليٌّ يهمُّ الفلسطينيين فقط؛ لقد امتدَّت آثارُ هذا الطوفانِ الهادرِ أخلاقاً الشامخِ بطولةً وصموداً إلى العالَمِ كلّه تنسفُ كذبةَ حقوق الإنسان التي سوَّقَ لها أدعياءُ النظام الدولي الجديد، وتدفنُ شرعيةَ المؤسسات الأممية المختلفة التي صمّت وعمت أمام أبشع آلاتِ القتل في التاريخ البشري، وأقذر مخططاتِ الإبادة والتهجير التي عرفها العالَم. المقاومةُ اليوم ترفعُ لواءَ القيم التي أسّسها الإسلام، وتُدافعُ عن الأخلاق التي دعت إليها شريعةُ المسلمين النقيّة، إذ كان هدفَ المقاومة الأوحد هو جيشُ الاحتلال وجنودُهُ وثكناتُهُ العسكريةُ وآلياتهُ الحربية ولم يكن المستهدفُ في كل عملياتِ المقاومة المسلحةِ النساء والشيوخ والأطفال بالرغم من أن المستوطنات الصهيونية معززة عسكرياً. لقد خرجَ أسرى العدو يتحدثون عن (ضيافة) كتائبِ القسام!!! وعن الرعاية الصحية التي كان رجالُ المقاومة يقدمونها لهم تحت حِمَمِ القصف، وعن حرصِ رجالِ المقاومة على الرعاية النفسية للأطفال الأسرى وكثيرٍ من القصص التي ستصنعُ مستقبلاً وعياً مختلفاً بقُدسيةِ المقاومة وشرعيّتها ووجوب تضامنِ شعوبِ العالمِ معها.
إن صورَ تسليمِ أسرى الاحتلال الصهيوني التي تابعَها العالَمُ بكثيرٍ من الدهشةِ والإكبار كشفت مفارقةً قيميةً كبيرة بين دولة الاحتلال الموغلةِ في الدَّمِ والجريمةِ والقتل وبين رجال المقاومة الأُباة الذين رفضوا إعطاءَ الدنيَّةِ في دِينِهم فأظهروهُ أخلاقاً سامقة ورُجولةً فذّة وكبرياءً لا يعرفُ الانحناء برغمِ كلِّ آثارِ هذه الحرب المُدمِّرة القاسية. لقد قدّمت غزّةُ الصمود للبشريةِ منظومةَ قِيَم وأخلاقٍ تؤسسُ لنموذجٍ متجذّرٍ في الإنسانيةِ والتحضُّر بديلاً عن فوضى الإمبريالية الصهيونية التي يدعمها النظامُ الغربي الليبرالي ويسوقُ بها العالَم إلى جحيمِ الشذوذ والظلمِ والقهر والعَدَمِ وتعاسَةِ الإنسان.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}