في ذكرى الشيخ الإمام العلَّامة الحبيب فارس: ومضات إيمانية من خلال سيرته

البدر فارس / إنَّ الكتابة عن شخص عادي من الأمور السهلة، وأما الكتابة عن عالمٍ حُر مُكافح فذلك مُنتهى الصعوبة؛ إذ لا يُمكن أنْ تفيَ الشخص حقه في سطورٍ قليلة. والشيخ الحبيب فارس التبسي ليس بالرجل الذي تستطيع في عرضٍ لسيرته أن تُشير إلى أعماله ومواقفه برمتها، أو تكتب عنه كلمات قصيرة، فكفاحه المرير المُتواصل، …

أبريل 7, 2025 - 17:58
 0
في ذكرى الشيخ الإمام العلَّامة الحبيب فارس: ومضات إيمانية من خلال سيرته

البدر فارس /

إنَّ الكتابة عن شخص عادي من الأمور السهلة، وأما الكتابة عن عالمٍ حُر مُكافح فذلك مُنتهى الصعوبة؛ إذ لا يُمكن أنْ تفيَ الشخص حقه في سطورٍ قليلة. والشيخ الحبيب فارس التبسي ليس بالرجل الذي تستطيع في عرضٍ لسيرته أن تُشير إلى أعماله ومواقفه برمتها، أو تكتب عنه كلمات قصيرة، فكفاحه المرير المُتواصل، ومواقفه المجيدة الخالدة تحتاج إلى مُجلداتٍ عديدة للتعريف بسيرته العطرة ومآثره الخالدة. وبمناسبة الذكرى الواحدة والثلاثين لوفاته نحاول في هذه المقالة المتواضعة تسليط الضوء على سيرته العطرة… وإذا كُنَّا في هذا المقال قد عرضنا سيرة الشيخ الحبيب فارس بإيجاز، فهي في إيجازها سيرة عظيمة، على المسلمين أن يتعرفوا عليها، وينتفعوا بها، ويكبروا من شأن صاحبها، فهو عظيم ومن كُملة الرجال، فإذا ذكرنا العلماء العظام في العالم الإسلامي فهو في زمرتهم، وإن عددنا الأبطال المجاهدين البواسل فهو سيدهم، وإن جاء ذكر محامد ومكارم الأخلاق، فهو صاحب الأخلاق الراقية والمكارم العالية، وإن فتشنا عن أولئك النفر القليل جدًا من الرجال الذين جمعوا كمال الرجولة ومظاهر العظمة وجدناه واحدًا من هذا القليل. ويبقى الحديث عن الشيخ طويلا ومُشوقا، ولا يسعنا في هذه الفقرات الضيّقة ذكر محاسنه وفضائله برمتها، فالنكتف بهذه الومضات الإيمانية من خلال سيرته الذاتية والعلمية، والكلمات القصيرة في حقه، التي تنطق بالصدق، فكل كلمة تُبرز حقيقة، وتجلو حادثة، في أمانةٍ نقية، دون أي زخرف أدبي، أو تزويق لفظي، آملين أنَّها ستصبح ذكرى للذاكرين، وعِبرةً لمن يعتبر، وموعظةً لمن يتّعظ.

حياة الشيخ الخاصة
كانت حياة الشيخ الخاصة بعيدة كل البُعد عن مظهر الأُبهة الفارغة الكاذبة، والعظمة الزائفة، والبذخ المُفرط، والإسراف المُسرف، فلقد كانت حياة بسيطة اتسمت بطابع الجدية والاجتهاد، والسعي وراء الأعمال الصالحة، لإصلاح أسرته أولًا ثم مجتمعه التبسي ثانيًا، وإعلاء كلمة الله عزَّ وجلَّ عاليةً خفَّاقة على كُل شبرٍ من أرضنا الجزائر العزيزة، مُحترمًا لآراء الآخرين غير مُتعصب لرأيٍ ما.
فالشيخ كان يدعو إلى الأخذ بالرأي لا يُبالي في رأيه بأحد… فقد كان عارفًا بأحوال الحياة، مُستوعبًا كل ثقافة من سبقوه ومن عاصروه، خبيرًا بالرجال، شديدًا على أهل الباطل، مرير السُّخرية بالطُّرقيين، لاذعًا مع المنافقين، مُتعاطي الفقه والعلم والثقافة في عصره.
كما أنَّ الشيخ يرى أنَّ أهل العلم يجب عليهم ألا يُشغلوا عنه بالسعي في طلب الرزق، مثلما يفعله الكثير من علماء هذا العصر، بل يجب أن يكون لهم نصيب من خزانة الدولة، فينالوا منها رواتب مُنتظمة كبيرة، كما ينال ضُباط الجيش الوطني الشعبي الذين يقومون بحماية الوطن، وسد ثغور حدود البلاد… فنشر العلم سد للثغور الروحية أمام الجهل، والإنفاق في نشر العلم جهاد. وإذن، فينبغي أن يكون لِكل من العالم وطالب العلم جزاء العسكريين كل بقدر ما يكفيه.
وليعلم القارئ الكريم أنَّ الشيخ الحبيب فارس كان في حياته مُهتمًا بحسن التغذية، فالغذاء الجيد يبني الجسم السليم، والعقل السليم في الجسم السليم، وطلب العلم يحتاج إلى عقول نشطة تصونها أجساد قوية. لهذا نرى الشيخ كان مُهتمًا بمأكله ومشربه، يختار الأطايب من كل صنف.
وهكذا عاش الشيخ بعد الاستقلال ومنذ بدأ يجلس للإفتاء والتدريس، وهو يتمتع بجسدٍ قوي، وعقل نفَّاذ… طعام حسن ومسكن جيد وثياب أنيقة بيضاء من خير ما تنتجه الأيادي والمصانع. فالجماهير في مدينة تبسة اعتادت رؤية الشيخ عندما يتجول في الشوارع في صورة رجلٍ مَهيبًا طويلًا فارعًا، عريض المنكبين، أبيض الوجه، أنيق الملبس.

دروسه المتميّزة
وألف المُصلُّون كلما دخلوا المسجد العتيق بمدينة تبسة أن يجدوا إمامًا مَهيبًا يعلوه الوقار، يتخذ مكانه في هدوء على منبر المسجد، ويتحدث في صوت عميق صادق ومن أمامه صفوف المُصلين، وفي مُقدمة الصفوف تجد تلاميذه المُحبين له، المُتشوقين لسماع درسه القيِّم المُمتع وهم في انتباه حريص، وكأنَّ على رؤوسهم الطير. فإذا دخل غريب وألقى السلام لم يرد عليه أحد إلَّا همسًا… فإذا سأل من هذا؟ قيل له في صوتٍ خفيض إنَّه «سي الحبيب».
فقد كان يفيض إذا تكلم، وينفذ بصدقه إلى القلوب… ولم يكن جهير الصوت، خاصةً في مُقدمة درسه، فكان تلاميذه يكادون يمسكون بأنفاسهم لكيلا تفوتهم كلمة مما يقول؛ وعندما يتبحر في الغوص في تحليلاته وتعليقاته على موضوع الدرس ينفجر منه علمٌ غزير نافع، ومواعظ وعِبر تشد وتبهر السامعين، ويرتفع صوته عاليًّا لإيقاظ إحساس الغافلين وإرجاع التائهين إلى الجادة وإلى الحق، ثم يلجأ في الكثير من الأحيان في ثنايا كلامه إلى تِكرار بعض المُفردات المُراد إسماعها وإيصالها للمستمعين وذلك قصد تثبيتها في أذهان المُصلين، وحثهم على العمل بمقتضاها، مُحفِّزًا إياهم بجملة من كلام السلف الصالح رحمهم الله جميعًا؛ وفي خاتمة الدرس يقوم بعرض مُلخص الدرس والمواعظ والعِبر التي تمكن من استنتاجها من خلال تحليلاته وتعليقاته على موضوع هذا الدرس.
والشيخ عندما يتطرق في درسه مثلًا إلى موضوع علمي عقائدي مُعيّن، فإنكَ لا تَملُّ من السماع والإصغاء إليه، تشعر وأنتَ تسمع له أنَّه يتفنن في انتقاء الألفاظ ونسجها في صورة علمية هادفة تسحركَ برونقها، لكنها تسبح بكَ في عالم المعاني الذي لا يخلو منه الأسلوب الخطابي الهادف، فتستفيد من تحليلاته ومعلوماته القيِّمة خير استفادة، وتتزود منها فضلًا عن الروح الدينية والعلمية والخُلقية والتربوية والوطنية ذوقًا راقيًّا وتمتعًا لا يزول بعد الكف عن الكلام، بل يمتد بك التمتع إلى المُشاركة في الرأي وتمثل المعاني تمثلًا يدفعك إلى تبني المواقف والعمل على نشرها.
ولقد كانت دروسه مرآة لعلمه، تنعكس عليها آمال المجتمع الإسلامي وآلامه، فهي بِضعة من نفسه، وجزء من تفكيره، وقبضة زمنية من تاريخه الطويل المُشرّف.
ولقد كان الإمام الحبيب فارس يُعلِّم الناس -في دروسه- قول الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّه ما جاء إلَّا ليُتمِّم وليُكمِّل مكارم الأخلاق… من أجل ذلك احترم الإمام الحبيب فارس أهل الديانات السماوية التي سبقت الإسلام، لأنَّ الرسالة المحمدية، ما جاءت إلَّا مُكمِّلةً لها… وأخذ نفسه وتلاميذه بمكارم الأخلاق… وعلَّمَ الناس أنَّ هدف الشرائع جميعًا هو العدل لقوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ(سورة الحديد، الآية: 25).
ومن أجل ذلك كان الشيخ دائمًا يُطالب الحكومات المتتالية التي أدارت الحكم في الجزائر بعد الاستقلال، وخاصةً النظام الحاكم في البلاد أنْ يسيروا في الناس بالعدل، وأنْ يُناضلوا دِفاعًا عن العدل، فهو قوام الحياة وضمان الحرية، وحِصن الإنسان.

شجاعته وبطولته
يُروى أنَّه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حدثت مجاعة بالمنطقة نتيجة شح التموين الذي كان يتم تحت إشراف القياد المعروفين بولائهم لفرنسا، فكانوا يجحفون في حق الأهالي ويحرمونهم من التزود من مادتي القمح والشعير، القوت الأساسي لسكان الجهة، فحدث أن طلب الشيخُ الحبيب فارس من القائد عدم حرمان الأهالي من التزود من الحبوب، وترجاه أن يفعل ذلك، لكن الآخر تعنت وأصرَّ على المنع رغم معرفته بالشيخ ومكانته في الأوساط الشعبية، وأمام الحشد ارتمى عليه، افتك منه مسدسه وصوَّبه نحو صدره آمرًا إياه بتمكين الزواولة من التزود بالمؤونة وإلَّا قتله… وكاد الموقف أن يتطور إلى أمرٍ جلل لو لا تدخل العقلاء بمن فيهم الأخ الأكبر القائد وتسوية المسألة وديًا، وتوزيع المؤونة على السكان دون مُساءلة الشيخ.
ومنذ ذلك الوقت أصبح الشيخ في نظر أهالي المنطقة بطلًا من الأبطال الشجعان الذين لا يخافون في قول الحق والعمل به لومة لائم.
ولا ننسى ذكر موقف الشيخ البطولي؛ عندما وقف في سنة 1977م وقفة العالم الرباني وعارضَ قرار السلطة فيما يخص توقيت صلاة العيد… ففي تلك السنة وبمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك، اختلفت الأقطار الإسلامية حول توقيت صلاة العيد، فأُقيمت في السعودية وبعض أقطار الخليج يوم الأربعاء وبعض الأقطار الأخرى كمصر يوم الخميس وأُريد لها أن تُقامَ يوم الجمعة «في اليوم الثالث لعيد الأضحى المبارك» في بعض الأقطار ومنها الجزائر…!!.
فوقف الشيخ الحبيب فارس وقفةَ العالم الربّاني، وقال لا يمكن أن تتباين رؤية الهلال ثلاثة أيام، ولا يمكن أن يكون أول ذي الحجة في قطر إسلامي اليوم وفي آخر غدا وفي ثالث بعد غد…
ورفض أن تُقام صلاة العيد متأخرة عن موعدها بيومين، وأمر مُصليه بعدم إقامة صلاة العيد في اليوم المزعوم من طرف السلطة. وتابعه كثير من شباب الصحوة الذين يحبونه ويعتبرونه قدوة لهم ومرجع إفتاء ومصدر ثقة لدينهم وعبادتهم.
وبعد هذه الحادثة (حادثة عيد الأضحى) وعندما كان رد فعل السُّـلـطة إداريا بالتوقيف وتجميد الـرّاتب والمحاصرة والتضييق ذاع صيتُ الشيخ الحبيب وصارت تُـشـدّ له الـرِّحالُ من كلّ أرجاء الوطن، وذاع صيتُ الشيخ حتّى خارج حُدود الوطن.

علاقاته ومكانته بين علماء عصره
لقد كان علاقاته مع علماء عصره مُتميّزة، والتي أصفها بالعلاقات الروحية، يسودها الاحترام والتقدير المُتبادليْن بين الطرفيْن.
فكِبار عُلماء عصره، أمثال الشيخ العلَّامة «محمد الغزالي» والشيخ الدكتور «يوسف القرضاوي» -رحمهما اللهُ تعالى- وغيرهما قد شهدوا بأنَّ الشيخ الإمام «الحبيب فارس» هو وِعاءٌ من علمٍ ومعرفة قد أحاط بثقافة الإسلام في عصوره الزاهرة إحاطة يندر أن تتمثل في غيره من علماء وطنه الجزائر.
ولنذكر مناسبة احتضان مدينة تبسة للمُلتقى الدولي للفكر الإسلامي الثالث والعشرين يوم 27 محرم 1401ه المُوافق ليوم 29 أوت 1989م، والذي دام مدة أسبوع بمُشاركة نخبة كبيرة من العلماء وعلى رأسهم الشيخ «محمد الغزالي»، والشيخ الدكتور «يوسف القرضاوي»، والشيخ الدكتور «محمد سعيد رمضان البوطي»، والشيخ «محمد سيد طنطاوي» رحمهم الله جميعًا، وغيرهم من العلماء الكبار… حيث بهذه المناسبة كُلِّفَ الشيخ الحبيب فارس من طرف والي ولاية تبسة باستقبال العلماء الوافدين إليها من كل الأقطار الإسلامية؛ فكان يستقبلهم الشيخ في المطار الدولي لمدينة تبسة -آنذاك-، ثم ينطلق بهم في سيارته الخاصة التي كان يقودها ابنه «عبد الحميد» إلى مكان إقامتهم، ثم يدور بينهم نقاشٌ في جلساتٍ مُفعمة بالنفحات الإيمانيَّة في رِحاب العلم والدين.
ويُروي لنا أحد المُتابعين لهذا المُلتقى الدولي أنه أثناء إحدى هذه الجلسات التي انعقدت في قاعات المُحاضرات بقصر الثقافة بمدينة تبسة، حاول الشيخ الحبيب فارس القيام من مجلسه، فإذا بالشيخ الفاضل «محمد الغزالي» رحمه الله تعالى يقوم من مَقامه ويمد يده إلى يد الشيخ لِمُساعدته على الوقوف تقديرًا واحترامًا واعترافًا بقيمة العالم الشيخ الحبيب فارس.
وليعلم القارئ الكريم أن الشيخ الحبيب فارس كان من العلماء القلائل في الجزائر الذين شهد لهم كُلٌّ من الشيخ «محمد الغزالي»، والشيخ الدكتور «يوسف القرضاوي» رحمهما الله تعالى كَقِبلة للإفتاء بالشرق الجزائري.
إنَّ مآثرَ الرجل الفقيد مُتعددة لا تفي بها عابرة مُستعجلة كهذه، تُكتب كُلَّما دارت دورة الزمن، إذ أنَّ للشيخ «الحبيب فارس» جوانب مُتعددة تتطلب دراستها مُجلدات، ولعلَّ ذكرى وفاته التي تُصادف يوم 22 مارس تكون حافزًا للأقلام المُتخصصة في الوطن العربي الإسلامي وفي وطنه الجزائر بصفة خاصة، وللذين أُتيحَ لهم حظ العيش معه، أن يدرسوا ما يزال مادة خامًا من مآثرِه الجليلة التي لا تُعد ولا تُحصى -وخاصةً منها دروسه القيّمة- وأن يستخلصوا العبرة من أعماله ومواقفه.