غزَّةُ ترفضُ التهجير: سوف نبقى هنا.
د.خديجة عنيشل/ بمجرّدِ إعلان وقفِ إطلاق النار في غزة تدفَّقَ طوفانٌ بشريٌّ من جنوبِ القطاع إلى شمالهِ في مشهدٍ مهيبٍ وهادرٍ صدَمَ الجميع، وكأنَّ أهلَ غزة وقّعوا جماعياً إقراراً برفضِ التهجير وإشهاداً بالتمسُّكِ بالأرضِ مهما كان الثمن. لقد كانت مشاهدُ عودةِ الغزيين صفعةً قويةً لدولةِ الاحتلال التي سوَّقت كثيراً لكذبة الانتصار على المقاومة، وأوهمت نفسَها …

د.خديجة عنيشل/
بمجرّدِ إعلان وقفِ إطلاق النار في غزة تدفَّقَ طوفانٌ بشريٌّ من جنوبِ القطاع إلى شمالهِ في مشهدٍ مهيبٍ وهادرٍ صدَمَ الجميع، وكأنَّ أهلَ غزة وقّعوا جماعياً إقراراً برفضِ التهجير وإشهاداً بالتمسُّكِ بالأرضِ مهما كان الثمن. لقد كانت مشاهدُ عودةِ الغزيين صفعةً قويةً لدولةِ الاحتلال التي سوَّقت كثيراً لكذبة الانتصار على المقاومة، وأوهمت نفسَها بتحقيقِ مكاسبَ سياسيةً وعسكرية؛ فقد اعترفَ رئيسُ حزب (العظمة اليهودية) إيتمار بن غفير -الذي انسحب حزبُهُ من الائتلافِ الحكومي بسبب وقفِ إطلاق النار في غزة- بأنّ مشاهدَ عودةِ النازحين شكّلت حالةَ إحباطٍ في إسرائيل قائلاً “إن فتحَ طريق نتساريم ودخولَ عشراتِ الآلافِ من سكانِ غزة إلى شمالِ قطاع غزة هي صورٌ لانتصارِ حماس وجزءٌ مُهينٌ آخر من الصفقةِ المتهورة واللامسؤولة”.
لقد كان طوفان العودةِ إلى الشمال رسالةً بالغةَ الوضوح للأرعن رونالد ترامب ولمن يدورُ في فلكه ويُردّدُ أسطوانتَهُ.. رسالةٌ مضمونُها: لن نتركَ أرضَنا.. سوف نبقى هنا. وإن جيلَ (طوفان الأقصى) الذي استوعبَ درسَ التهجير 48/67 لن يقعَ في فخِّ أكاذيبِ الشرقِ والغرب. هذا الجيلُ الأسطوريُّ الذي واجهَ جهنّمَ الصهاينة بشجاعةٍ نادرة واستبسالٍ لا نظيرَ له لن تستطيعَ أيَّةُ قوة أن تُخرجَهُ من أرضه أو أن تبعدهُ عن تُرابِ وطنه. لقد استطاعَ عملياً أن يهزمَ دولةً تدعمُها عشراتُ الدول، واستطاعَ أن يُعجِزَ نتنياهو الذي حشدَ البرَّ والبحر لتهجيرهم فلم يُذعنوا وعادوا غصباً عنه إلى ديارهم فرحين مستبشرين رغم التضحياتِ الجِسام التي قدّموها في حين لم يستطع المستوطنون الصهاينة فِعْلَ ذلك حيثُ صرّحَ زعيمُ المعارضة في دولةِ الكيان يائير لبيد قائلاً: “إن عودةَ سكانِ غزةَ إلى منازلهم قبل عودةِ جميع سكان مستوطناتِ غلاف غزة “دليلٌ مؤلمٌ” على عجز حكومة نتنياهو”
إنَّ مشاهدَ عودةِ أهلِ غزة إلى بيوتِهم المُهدَّمة وبناياتِهم المُنهارة، ومنظرَ نصبِ الخيامِ فوق الرُّكام واستمرارَ الحياة التي حاولَ الكيانُ الصهيونيُّ قتلَها بكلِّ الطرقِ والوسائل خلال حربٍ جهنميةٍ مُدمّرة دامت أكثر من سنة لم تخمد فيها نارُ الإجرامِ ساعةً واحدة هي كلُّها دلائلُ قوةٍ صلبةٍ لا تستكين، وعلاماتٌ لمبدأ ثابتٍ لا يتحوّل عندَ شعبٍ ملتصقٍ بأرضه لا يرضى عنه بديلاً مهما كانت التضحيات ومهما حصلت من حروب. غزةُ التي واجهت بمفردها جيشَ الاحتلال سبعَ مراتٍ خلال 15 سنة لم يستطع أن يُجاريها في ذلك جيشٌ عربيٌّ واحد بل جيوشٌ عربيةٌ كاملة !!! غزةُ التي تنوبُ عن أمةِ المليارَيْ مسلم دفاعاً عن قضيةٍ يريدُ الجميعُ أن تُدفَنَ ويُدفَنَ معها حقُّ الشعب الفلسطيني في أرضهِ وبلده ومقدَّساتِه.. غزةُ المُحاصَرة التي أوقفت العالَمَ كلَّهُ على رجلٍ واحدة –كما وعَدَ السّنوار-وأعادت بعثَ قضيةَ فلسطين التي باع واشترى فيها جميعُ الأطراف ولم تزدِ المُطبّعينَ والمتصهينين والمنافقين إلا تبارا .. غزةُ التي شكَّلَت شوكةً صلبةً في حلقِ عدوٍّ جبانٍ يتقوّى بأمريكا وقوى الشر في العالم قال عنها إسحاق رابين-رئيس وزراء دولة الاحتلال السابق- في أحدِ تصريحاته: ” إنّ الكوابيسَ تُطبقُ عليَّ كلَّ ليلةٍ بسبب غزة .. أتمنى أن استيقظَ ذات يوم من النوم فأرى غزةَ وقد ابتلعها البحر”.
وغزةُ بمفردها اليوم تؤدّب الأرعنَ ترامب الذي صرّحَ مُهدّداً: “سيكون جحيمٌ في غزة إذا لم تُفرجوا عن كل الرهائن” وبعدها بيومين خرج يقول: “آملُ تحرير6 رهائن أمريكيين تقديراً لدوري” !!! .. وهو الرئيسُ الأرعنُ نفسُهُ الذي نكسَ في حضرتِهِ ملكٌ عربيٌّ بمنتهى الذلّة والصَّغار في صورٍ مُهينةٍ ستظلُّ وصمةَ عارٍ في جبينِهِ مدى التاريخ.. غزةُ تعطي دروساً في العزة والكبرياء لأمّةٍ أذعنت للخنوع وطأطأت قامتَها التاريخيةَ لكيانٍ بلا تاريخ ظناً منها أن مزيداً من التنازلِ سوفَ يمنحُها حقوقاً ولكن ما زادَها التذلُّلُ إلا ذلّاً، وما زادها الخُنوعُ إلا مزيداً من رفسِ الأرجل والأَقدَام.. غزّةُ اليومَ تحققُ أعظمَ الإنجازاتِ التاريخية لأمةٍ رانَ عليها الخوفُ والهزيمةُ، وتلَبَّسَها الخنوعُ ورُهاب المواجهة فقد أثبتت المقاومةُ عملياً أنَّ الكيانَ الصهيونيَّ يمكنُ هزيمتُه، وأنَّ جيشَ الاحتلالِ يمكنُ قهرُه، وأنَّ أمريكا الطاعون يمكنُ أن نقولَ لها: لا. لقد انعطفت غزّةُ بالأمّةِ العربيةِ والإسلامية إلى طريقِ الإباء الذي يجعلها ترفُضُ الهيمنة، وإلى طريقِ الكبرياءِ الذي يُحققُ لها الانعتاقَ من غطرسةِ أمريكا والغربِ الإمبريالي، وإلى طريقِ العزةِ الذي تبعثُ به وُجودَها الحضاريَّ من جديد لتكونَ رُكناً قوياً من أركانِ الحضارةِ الإنسانية. أرادَ أعداءُ الإنسانيةِ حُلفاءُ الشيطان إبادةَ غزّة ولكنَّ الله أرادَ لغزّةَ أن تكون بوصلةَ الأمة وقائدَتَها نحو التغيير والانبعاث.. ﴿وتودُّونَ أنَّ غيرَ ذاتِ الشوكةِ تكونُ لَكُم، ويريدُ الله أن يُحِقّ الحقَّ بكلماتِهِ ويقطعَ دابرَ الكافرين﴾.