فرنسا الخبيثة تعود إلى عادتها القديمة!

أ. عبد الحميد عبدوس/ يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد تخلى عن غطرسته السياسية، وانتقل في التعامل مع الجزائر بخصوص قضية الجاسوس الفرانكو ـ جزائري، بوعلام صنصال، من لهجة التهديد والاستفزاز، إلى لهجة التمني والتودد للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. الرئيس ماكرون كان قد أصدر في مطلع العام الجاري (2025)، تصريحا استفزازيا زعم فيه …

مارس 25, 2025 - 13:58
 0
فرنسا الخبيثة تعود إلى عادتها القديمة!

أ. عبد الحميد عبدوس/

يبدو أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد تخلى عن غطرسته السياسية، وانتقل في التعامل مع الجزائر بخصوص قضية الجاسوس الفرانكو ـ جزائري، بوعلام صنصال، من لهجة التهديد والاستفزاز، إلى لهجة التمني والتودد للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. الرئيس ماكرون كان قد أصدر في مطلع العام الجاري (2025)، تصريحا استفزازيا زعم فيه أن»«الجزائر فقدت شرفها»، بعد اعتقال العميل بوعلام صنصال، الذي أساء للجزائر، وشكَّك في وحدتها الترابية. في ذلك التصريح الوقح ، أدعى ماكرون أن بوعلام صنصال «محتجز بطريقة تعسفية تماماً من قِبل المسؤولين الجزائريين… و أن الجزائر تمنعه من الحصول على العلاج»، وطالب الحكومة الجزائرية بإطلاق سراح بوعلام صنصال. لكن بعد ثلاثة أشهر من تصريحه المغرور، تمت محاكمة بوعلام صنصال، في 20 مارس الجاري، بالجزائر، وطالب وكيل الجمهورية لدى محكمة الجنح بالدار البيضاء في العاصمة، بتوقيع عقوبة 10 سنوات حبسًا نافذًا وغرامة مالية قدرها مليون دينار جزائري على المتهم. وبهذه المناسبة، قال الرئيس الفرنسي إنه يتمنى أن يُطلق سراح المتهم ويتمكن من العلاج، مشيرا إلى أنه «واثق من الرئيس تبون واستبصاره بأن يرى أن كل هذا غير جاد لأن الأمر يتعلق بكاتب كبير ومريض». كما كشف الرئيس ماكرون، في نفس التصريح، أنه تبادل رسائل مع الرئيس الجزائري.
السلطات الفرنسية بمختلف مستوياتها، التي حشرت نفسها في قضية جزائرية داخلية، شكلت شرارة اشتداد الأزمة، لجأت في الآونة الأخيرة إلى مرحلة قلب الحقائق، واعتماد الكذب كسياسة رسمية لتسيير الأزمة التي كانت أول من أشعل نارها. فبعد أسابيع متلاحقة من ترديد الادعاءات، وتوزيع التهم، والتلويح بالتهديدات، والتخويف بتحديد المهل، والترهيب بالإجراءات العقابية ضد الجزائر. عاد وزير الداخلية الفرنسي اليميني المتطرف برونو روتايو ليتقمص دور الضحية، فصرح يوم 19 مارس الجاري، لإذاعة فرنسية، قائلا: «لسنا عدوانيين، ولا نريد الحرب مع الجزائر. الجزائر هي التي تعتدي علينا». حتى وزير الخارجية جان نويل بارو الذي كان يتظاهر بأسلوب اللين والتعامل الدبلوماسي انخرط في سياسة محاولة إغراق السمكة في الماء بقوله: «ليست فرنسا هي التي تحتجز بصفة اعتباطية رعية فرنسية جزائرية، وليست فرنسا هي التي ترفض إعادة قبول رعايا يوجدون في وضعية غير قانونية على أرضنا في حين أن الاتفاقيات التي تنظم العلاقات بيننا تنص على إعادة قبول يجب أن تتم دون مشاكل». بعد كل هذه التصريحات الرسمية، أكدت الناطقة باسم الحكومة الفرنسية في ختام اجتماع مجلس الحكومة في نهاية الأسبوع الماضي، بأن «ليس هناك اختلاف في طريقة التعامل مع الجزائر، وأن هناك تناسقا بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووزير الداخلية».
الجزائر لم تسقط في مصيدة الخبث السياسي، ولا في لعبة تبادل الأدوار بين مستويات السلطة الفرنسية بين من يتظاهر بالمرونة والبحث عن مخرج سياسي للازمة، على غرار الرئيس إيمانويل ماكرون، ووزير الخارجية جان نويل بارو، وبين من يقوم بإبداء الصلابة والتشدد، والدفع نحو المواجهة والقطيعة على غرار وزير الداخلية برونو روتايو، ووزير العدل جيرارد موسى درمانان، بالتنسيق مع شرذمة السياسيين الفاسدين من عصابة اليمين المتطرف على غرار مارين لوبان، وإريك سيوتي وإريك زمور الذين مازالوا يهددون باتخاذ إجراءات عقابية ضد الجزائر.
اللافت للانتباه أن جميع هذه التصريحات الفرنسية تزامنت، أو جاءت بعد يوم واحد، من احتفال الجزائر بعيد النصر في 19 مارس، وتمثل ذكرى 19 مارس عيدا وطنيا للجزائر، ومن جهة أخرى تشكل درسا تاريخيا قاسيا لفرنسا الاستعمارية. لقد كانت الذكرى دليلا على أن سياسة الضغوط والترهيب والتهديد وإملاء الشروط لا تجدي نفعا مع الجزائريين. ومثلما حدث قبل 63 سنة، عندما كان الجنرال شارل ديغول الذي عاد إلى سدّة الحكم في فرنسا في جوان 1958 يحاول إيجاد بديل عن فشل الحل العسكري في الجزائر باللجوء إلى حل تفاوضي. لكن، رغم أن الجنرال ديغول اعترف في 16 سبتمبر 1959 بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، إلا أنه ظل متمسكا بسياسة القبضة الحديدية وبوهم الانتصار العسكري على جيش وجبهة التحرير الوطني. لقد حاول خنق الثورة الجزائرية ومحاصرتها من الشرق والغرب، بإقامة خطي شال وموريس المكهربين. وبعد تكثيف العمليات العسكرية الكبرى، في مختلف ولايات الوطن، على غرار عملية «الأحجار الكريمة» التي أطلقت في سبتمبر1959 لخنق الولاية الثانية. وعملية جومال (المنظار) لخنق الولاية الثالثة من 22 جويليه 1959 إلى 4 أفريل 1960، وعملية كورون (التاج) في فيفري 1959 في الولايتين الخامسة والرابعة، وعملية (كوروا) في الولاية الرابعة أجزاء من الولاية السادسة، وعملية إيتانسيل (الشعلة) في 1959 التي شملت جزء من الولايات السادسة والرابعة والثانية والأولى. وكان المجهود العسكري الفرنسي يستفيد من دعم الحلف الأطلسي. كما تم تكثيف عمليات الاعتقال والتعذيب والاغتيال، والقنبلة العشوائية وتدمير القرى. حتى أن الجنرال ديغول قال لجنوده في عام 1960: ″ إنني أقولها لكم جميعا، أن مهمتكم لا تحتمل الغموض والتأويل، وعليكم بتصفية المتمردين الذين يريدون طرد فرنسا من الجزائر ويخضعوا هذا البلد لدكتاتورية البؤس والرعب”.لكن جنود الجنرال ديغول فشلوا في تصفية الثوار الذين أذاقوهم مرارة الهزيمة في المدن والقرى والجبال،كما عبر الشعب الجزائري عن صموده البطولي، والتفافه الصلب حول جيش التحرير وجبهة التحريرالوطني بأقوى صورة ممكنة في مظاهرات 11 ديسمبر 1960، فأراد ديغول أن يحقق بالمفاوضات ما لم يستطع تحقيقه بالقتال. عقدت مفاوضات إيفيان الأولى والثانية التي أفضت إلى رضوخ فرنسا لمطلب الثورة الجزائرية بإقرار مبدأ تقرير المصير للجزائر، وتم التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962 الذي أصبح يرمز في الجزائر لعيد النصر.
لم يكن طريق الوصول إلى عيد النصر الذي توج مفاوضات إيفيان سهلا، ولا ميسورا. فقد خاض الجانب الفرنسي مناورات سياسية لاتقل ضراوة وشراسة عن المعركة العسكرية. حيث بدأ الجانب الفرنسي باشتراط وضع المجاهدين لسلاحهم للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وعندما رفض المفاوضون الجزائريون هذا الشرط المذل،انتقل الجانب الفرنسي إلى اشتراط إشراك عملاء فرنسا من الحركى المنضوين في حزب الحركة الوطنية (MNA) في مفاوضات تقرير المصير، وبعد رفض الجانب الجزائري لهذا الشرط الخبيث، وتمكن من إرغام الجانب الفرنسي على الاعتراف بممثلي جبهة التحرير كممثل وحيد للشعب الجزائري في المفاوضات، حاول الجانب الفرنسي اللعب على ورقة انتقاص السيادة الجزائرية والتنكر لمبدأ وحدتها الترابية باقتراح فصل الصحراء عن الجزائر، واعتبار الصحراء التي اكتشفت فيها الثروة النفطية في سنة 1956، بحرا داخليا تشترك فيه كل البلدان المجاورة. لكن الوفد الجزائري اظهر صلابة ثورية وقناعة وطنية في التمسك بالوحدة الترابية للجزائر، مصرا على عدم التنازل أوالتفريط في وحدة الأرض والشعب الجزائري، وهدد بمغادرة طاولة المفاوضات والعودة إلى مسار القتال.ولما تأكد قادة الاحتلال الفرنسي من عدم قدرتهم على إخضاع الجزائر سواء عن طريق معركة كسر العظم (حرب التحرير الوطني) أو عن طريق معركة عض الأصابع (مفاوضات إيفيان) خرج الاحتلال الفرنسي من أرض الجزائر التي كان يعتبرها جنته الإفريقية، صاغرا مدحورا، ولكن ظل حنين العودة إلى الجنة المفقودة يملا قلوب الكثير من أبناء فرنسا الذين مازالوا يشكلون اللوبي اليميني المتطرف المدافع عن الإرث الاستعماري، ويستميتون في محاولات إهانة الجزائر، وإلحاق الضرر بشعبها وباستقلالها.