مجاهيل هندسة التضليل الإعلامي
الدكتور محمد بغداد في خضم المواجهة العسكرية بين الكيان الصهيوني والجمهورية الإيرانية ومن بعدهما دخول الولايات المتحدة الأمريكية على خط المواجهة العسكرية، بقدر ما تمكنت من جلب اهتمام قدر واسع من الجمهور بقدر ما كشفت هذه اللحظة التاريخية عن حرب أكثر شراسة هي الحرب الإعلامية التي تولت إدارة المزاج وتوجيه الاهتمام والتأثير المباشر في نوعية …

الدكتور محمد بغداد
في خضم المواجهة العسكرية بين الكيان الصهيوني والجمهورية الإيرانية ومن بعدهما دخول الولايات المتحدة الأمريكية على خط المواجهة العسكرية، بقدر ما تمكنت من جلب اهتمام قدر واسع من الجمهور بقدر ما كشفت هذه اللحظة التاريخية عن حرب أكثر شراسة هي الحرب الإعلامية التي تولت إدارة المزاج وتوجيه الاهتمام والتأثير المباشر في نوعية الوعي والتحكم حتى في السلوك، مما يجعلنا أمام استفحال قوة وشراسة الحرب الإعلامية وحجم حسمها للمواجهات الكونية القادمة.
عند التأمل الدقيق في المشهد الإعلامي نقف أمام طرفين جهدهما الأساس موجه نحو المجال الإعلامي والارتكاز على تسويق المعلومات وصناعة المحتوى الذي يحقق أكبر قدر من الانجاز بالنسبة له، في المقابل نجد الطرف الثالث يزود الطرفين بما يراه مناسبا من الكثافة الإعلامية التي تحقق في النهاية غرضه وتوسع مجالات نفوذه على الطرفين ومن ورائهما السوق الكونية.
فالطرف الإسرائيلي عمل على صناعة محتوى ذا طبيعة خاصة يتمثل موجه بالدرجة الأولى للمشهد العربي والإسلامي من خلال استهداف روح المقاومة وضرب إمكانية الأمل في تحقيق الانتصار، وزاد عليه أن طور المحتوى الاتصالي من خلال استعادة المقاولات التقليدية وحصر الموضوع في صراع بين (الشيعة المكروهين من أهل السنة، بين اليهود منبوذين من المسلمين)، وتضخيم المستحضرات التاريخية التي ولد في أزمنة التخلف والجفاء في ساحة المسلمين، مع الحرص على الابتعاد قدر الإمكان بالمزاج العام للمسلمين عن الواقع الحقيقي القائل بأن الصراع يدور بوسائل تكنولوجية متطورة جدا، وان العقل الإسلامي لا يأمل إلا في وجدان الأمنيات بأن تنتصر الرغبات والأمنيات الطيبة على المستويات العالية الدقة من العلم والمعرفة والتكنولوجية.
في الجهة المقابلة قامت حملات إعلامية قوية قادتها تيارات وجماعات وفئات متنوعة في التمظهر، ولكنها متفقة في المحتوى تتصدر طرف المسلمين وتورطت معها حتى ما يسمى بالنخب العالمة، التي انكشف عن عورات كبيرة في مقدمتها عدم الحصول على المعلومة والابتعاد عن الموضوعية وتجنب الدقة وأكثرها الجهل التام بتفاصيل المعركة، ولكنها اعتمدت على الشحنات العاطفية والأمنيات الفردية ومحاولة التطلع إلى انجازات تاريخية مجهولة النتيجة وغامضة المصير، والمهم عندها أن تستهدف ذاتها أولا من خلال صناعة محتوى يلبي طموحات النفس ويروي عطشها من الظلم الذي طال جثومه على نفسها وأغلق عليها الآفاق.
في الجانب الآخر وقف الطرف الأمريكي يعمل على إحداث التوازن الاتصالي بين الطرفين، كونه الوحيد الذي يملك المعطيات ويستحوذ على المعلومات، فيسمح بنشر ما يلبي غرور وطموحات كل طرف ولكن بالقدر الذي يحدده هو وليس بالقدر الذي يحتاجه الآخر، فمعلومات الحرب ومعطياتها وجزئيات تفاصيلها تمتلكها عشر شركات أمريكية فقط، والتي حققت من الأرباح أرقاما خيالية نتيجة تسويق المعلومات وبيع المعطيات للطرفين ومن خلالهما إلى كل المهتمين بالموضوع، وقد تعمدت هذه الشركات التلاعب بهذه المعلومات والتحكم في مسار معطيات الحرب، من اجل تحقيق المزيد من الأرباح والتحكم أكثر في وعي المستهلكين وأرباح المسوقين من الطرفين.
ما يهمنا من الموضوع، ليس نتيجة المواجهة العسكرية، ولا نتائجها الأولية وليس سلوك الأطراف المنخرطة فيها ولكن المفيد حقيقة أن تنتهز النخب العلمائية (مهتمين وباحثين جامعات ومخابر ومؤسسات إعلامية)هذه السانحة وتتجه القيام بواجبين، أولهما التوبة العلمية النصوح، عبر التوقف التام عن ممارسة المعاصي وارتكاب الذنوب العلمية، وثانيهما: القيام بدراسات وأبحاث علمية حقيقية تكون ثمراتها إنتاج محتوى اتصالي يرفع من مستوى المستهلكين ويعدل من سلوكياتهم ويدفعهم نحو فهم سليم للأحداث وإدراك واضح للوقائع ويجب المستهلكين من الجمهور التورط في الأوهام من التصورات والعبثي من السلوكات والساذج من المواقف.
ولكن ما يثر الاستغراب حقا التجاهل المريب الذي قابلت به النخب العلمائية (مهتمين وباحثين جامعات ومخابر ومؤسسات إعلامية)، البيانات التي أصدرتها سلطة ضبط السمعي البصري الجزائرية، وهي البيانات التي اقتربت من مستويات التحذير شديد اللهجة، وتضمنت عبارات خطيرة، مثل (هشاشة المؤهلات الأكاديمية والإعلامية، الترويج لخطابات الخرافة والدجل،تصاعد الخطاب الإعلامي المضلل، تفادي استضافة الأصوات غير المؤهلة أو المضللة)، وغيرها من العبارات والجمل التي تعبر عن مستوى عالي من الانزعاج والتردي في الانحطاط والتخلف في الممارسة الإعلامية.
إن ثنائية (صناعة المحتوى المضلل) بين ما يقع في حرب الخليج الثالثة، وبين ما صدر عن سلطة ضبط السمعي البصري الجزائرية،يحتاج إلى الكثير من التأمل بداية من التأكد بن مقولة العرب القديمة القائلة (بأن الحرب مبدؤها الكلام)، والمقصود بطبيعة الحال هنا (الخطاب لاتصالي)، ما يجعلنا نقف باستغراب شديد من موقف النخب العلمائية عندنا من هذه الثنائية التي تجاهلتها تماما، دون نرى رد فعل معقول منها تجاهها، ولم نشاهد حركة من (مهتمين وباحثين جامعات ومخابر ومؤسسات إعلامية)، مما يجعل من إمكانية توقع الأسوء في القادم من الأيام هو المقرر والقائم، بعيدا عن التشاؤم أو اليأس والإحباط.
ولعل الخطر المتوقع من هذه الحالة (تجاهل النخب العلمائية)، يكمن في مستويين أولهما، الأجيال القادمة التي ستجد من تركة الأجيال الحالية التجاهل والإهمال للواقع ومعطيات المشهد ما يجعلها تواصل السير في منحنيات الانكسار والتخلف، واجترار الهزائم وإنتاج الخبائل من المحتويات الاتصالية، ثانيهما ما يصيب الوعي الجمعي و ما ينتج عنه من سلوكات تصيب في نهاية الرؤية والموقع التاريخي في الصميم، وليس بعيدا عنا تلك المناسبات القريبة التي تعلق فيها الوجدان الجمعي بانتصارات واهية وانجازات هلامية صنعتها أطراف غربية، فلما انتهى غبار المعركة انقشع على مآسي رهيبة دفعت تكلفتها أجيال كاملة.
إن المخاطر المتوقع في مستقبل الشرق الأوسط، وما سينتج عن حرب الخليج الثالثة، من إعادة جوهرية لخرائط سايسبيكو ، واستبدالها بخراط جديدة تكون خادمة للاستعمار الغربي، ومساهمة في تعميق التخلف والدمار الذاتي للمنطقة، وإضافة تكاليف تاريخية باهظة تتحملها الأجيال القادمة، كل ذلك لا يقل خطورة من التجاهل المريب والتواري الغريب للنخب العلمائية عندنا، عن الكثير من معطيات الواقع، وفي مقدمتها التحذيرات الخطيرة التي أطلقتها سلطة ضبط السمعي البصري، وخطورتها ليس متعلقة كما قد يتصور البعض بحدود سياسية أو ظروف عابرة ولكن الخطورة تكمن في التكلفة التي سيدفعها (الوعي التاريخي برمته)، للمجموعة الوطنية التي تجد نفسها اليوم ليس في مواجهة القوى المنتجة للمعطيات والمادة الخام للإعلام والمعلومات، ولكنها في مواجهة مؤلمة وشديدة الحساسية من طرف الذات المنتجة للمحتوى الاتصالي الذي يستهدف الذات، ويعمل على تدمير مفاصل كيانها ويسعى إلى تمزيق أواصر انسجامها الاستراتيجي.