ملتقى دولي لجمع شتات الذاكرة الجزائرية المخطوطة
مراد ترغيني /جامعة خنشلة في خطوة أكاديمية رائدة ومُقدّرة، احتضنت جامعة عباس لغرور بخنشلة، القلب النابض للمعرفة في منطقة الأوراس، حدثاً علمياً وثقافياً يكتسي أهمية استثنائية، ليس فقط للمشهد الأكاديمي الجزائري، بل لكل المهتمين بالتراث الإنساني المخطوط عبر العالم. الملتقى الدولي الأول حول “التراث الجزائري المخطوط في الخزائن العالمية: من الكشف …

مراد ترغيني /جامعة خنشلة
في خطوة أكاديمية رائدة ومُقدّرة، احتضنت جامعة عباس لغرور بخنشلة، القلب النابض للمعرفة في منطقة الأوراس، حدثاً علمياً وثقافياً يكتسي أهمية استثنائية، ليس فقط للمشهد الأكاديمي الجزائري، بل لكل المهتمين بالتراث الإنساني المخطوط عبر العالم. الملتقى الدولي الأول حول “التراث الجزائري المخطوط في الخزائن العالمية: من الكشف إلى النشر” لم يكن مجرد تجمع للباحثين، بل شكّل، كما أكد الأستاذ الدكتور عبد الواحد شالة، مدير الجامعة برؤيته الاستشرافية، منصة تأسيسية ومنطلقاً واعياً ومُركّزاً نحو استكشاف وحماية وتثمين كنز فكري جزائري أصيل، ولكنه مُشتت للأسف عبر أصقاع الأرض بفعل عوامل تاريخية وجغرافية متعددة. رؤية مدير الجامعة الثاقبة، التي سنستعرضها، لم تضع فقط حجر الزاوية لهذا المسعى العلمي الطموح، بل أكدت على الضرورة الملحة لمواجهة تحديات الحاضر واستشراف آفاق المستقبل لهذا الإرث العظيم الذي يمثل جزءاً لا يتجزأ من الذاكرة والهوية الوطنية.
انطلاقة واعدة: مراسم، اتفاقيات استراتيجية ومحاضرة مفتاحية
في أجواء علمية غلب عليها الشعور بالمسؤولية المشتركة، وبحضور رسمي وأكاديمي رفيع المستوى، أعطى السيد والي ولاية خنشلة، صباح يوم 15 أفريل 2024، إشارة الانطلاق الرسمي لفعاليات الملتقى الدولي. الكلمات الافتتاحية التي ألقاها تباعاً كلٌ من السيد مدير الجامعة، والأستاذ الدكتور مبروك زيد الخير، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، والدكتور عبد القادر رحمون، رئيس الملتقى ومدير مخبر الدراسات والبحوث التاريخية في التراث والحضارة، لم تكن مجرد كلمات بروتوكولية، بل عكست إدراكاً عميقاً لأهمية الموضوع وضرورة تضافر الجهود. وتجسيداً لهذا التوجه العملي، شهدت الجلسة الافتتاحية خطوات ملموسة؛ حيث تم إمضاء اتفاقيتي تعاون استراتيجيتين، الأولى مع المجلس الإسلامي الأعلى، بما يمثله من مرجعية دينية وثقافية عليا، والثانية مع المديرية العامة للجمارك الجزائرية، باعتبارها خط الدفاع الأول عن التراث الوطني من التهريب والتصدير غير الشرعي، وهدفت الاتفاقيتان إلى وضع أطر مؤسسية للتعاون المستقبلي خدمةً للتراث المخطوط وحمايته وتسهيل دراسته. أعقب ذلك حفل تكريم لضيوف الجامعة والشخصيات العلمية البارزة المشاركة من داخل وخارج الوطن، تقديراً لجهودهم ومساهماتهم القيمة. وكمدخل علمي رفيع المستوى لأعمال الملتقى، ألقى الأستاذ الدكتور فيصل الحفيان، الخبير الدولي المرموق والمدير الحالي لدار المخطوطات باسطنبول، محاضرة افتتاحية ثرية وموجّهة، استعرض فيها خبراته وتجاربه، واضعاً بذلك معياراً علمياً عالياً للنقاشات اللاحقة، قبل الإعلان عن انطلاق أشغال الجلسة العلمية الأولى التي باشرت فوراً في مناقشة المحاور المحددة. وفي خضم هذه الانطلاقة القوية، لخص مدير الجامعة، الأستاذ الدكتور عبد الواحد شالة، الرؤية الجامعة للملتقى بقوله: “يُمثّل الملتقى الدولي الأول حول ‘التراث الجزائري المخطوط في الخزائن العالمية: من الكشف إلى النشر’ منصة علمية بالغة الأهمية، تكمن قيمته الجوهرية في تسليط الضوء الأكاديمي المُركّز على هذا الإرث الفكري الثمين والمُشتت… فهو لا يقتصر على دراسة عوامل الانتشار… بل يتصدى للإشكاليات المحورية المتعلقة بجهود الكشف عنها، وتحديات الحفاظ عليها وإتاحتها الرقمية، وبحث سُبل حمايتها واستثمارها، مما يجعله محطة فارقة لتقييم هذا التراث وتعزيز دوره في تعميق الهوية الثقافية والعلمية للجزائر.”
إشكالية التشتت العالمي: تشخيص دقيق وبحث عن حلول عملية
شكلت الإشكالية المحورية للملتقى، الذي نُظم بالشراكة الفاعلة مع المجلس الأعلى للغة العربية، نقطة الارتكاز الأساسية للنقاشات. فقد تم تحليل ظاهرة انتشار وتوزع المخطوطات الجزائرية عبر خزائن ومكتبات العالم، الرسمية منها والخاصة، بعمق وتفصيل. وسعى الباحثون المشاركون إلى تفكيك عوامل هذا الانتشار، سواء كان ذلك بفعل عوامل تاريخية معقدة تشمل فترات الاضطراب والاستعمار التي شهدتها البلاد، أو نتيجة للتبادل العلمي والثقافي الطبيعي عبر العصور، أو حتى بسبب الإهمال وسوء التقدير لقيمة هذا الإرث في فترات معينة. كما تم تسليط الضوء بشكل خاص على الخصائص العلمية والفنية الفريدة لهذه المخطوطات، من حيث المحتوى الفكري، والمدارس الخطية، وفنون الزخرفة والتجليد، وهي الخصائص التي منحتها قيمة عالمية وجعلتها محط اهتمام الباحثين والمقتنين. ولم يقتصر النقاش على التشخيص، بل هدف إلى بلورة رؤى واستراتيجيات عملية لمواجهة التحديات الجسيمة، وشملت هذه التحديات التي نوقشت بعمق صعوبات بناء فهارس وطنية ودولية موحدة وشاملة، وقيود الوصول إلى المخطوطات في بعض المؤسسات الأجنبية، والحاجة الماسة لبرامج حفظ وصيانة متقدمة باستخدام أحدث التقنيات، فضلاً عن تحديات الرقمنة والإتاحة العادلة في ظل الفجوة الرقمية أحياناً، وصولاً إلى الملف الشائك المتعلق بدراسة إمكانية استرجاع ما يمكن استرجاعه من هذا التراث وفقاً للأطر القانونية والأعراف الدولية.
حشد علمي دولي ووطني: تلاقح الخبرات وتكامل الرؤى
تميز الملتقى بحشد علمي نوعي، حيث شهد مشاركة دولية رفيعة المستوى، ضمت قامات علمية وبحثية لها وزنها في مجال دراسة وتحقيق المخطوطات، مثل الأستاذ الدكتور فيصل عبد السلام الحفيان (تركيا)، والأستاذ الدكتور محمود أحمد مصري (تركيا)، والأستاذ الدكتور علي بن أحمد العلايمي (تونس)، والدكتور إبراهيم باجس عبد المجيد المقدسي (الأردن)، وغيرهم من الخبراء الذين أثروا النقاش بخبراتهم الدولية. وعلى الصعيد الوطني، كانت المشاركة لافتة بحضور شخصيات علمية ومؤسسية وازنة يتقدمهم الأستاذ الدكتور مبروك زيد الخير (رئيس المجلس الإسلامي الأعلى) والأستاذ الدكتور شريف مريبعي (رئيس المجمع الجزائري للغة العربية)، إلى جانب نخبة من الأساتذة والباحثين الجزائريين المتخصصين. اللافت للانتباه هو اتساع قاعدة المشاركة لتشمل أكثر من 32 جامعة ومركز بحث من مختلف أنحاء الوطن، حيث تم تقديم ومناقشة 118 مداخلة علمية محكّمة، شارك في إعدادها أكثر من 150 باحثاً، من أساتذة مؤكدين وباحثين شباب وطلبة دكتوراه. هذا التنوع في المشاركين والتخصصات، التي تقاطعت فيها الدراسات التاريخية والأدبية والشرعية الإسلامية والقانونية والأنثروبولوجية والإعلامية، أتاح تبادل وجهات نظر متكاملة وفتح آفاق جديدة للبحث، حيث غطت المداخلات موضوعات دقيقة تتراوح بين تحقيق النصوص، ودراسة مدارس الخط والزخرفة، وتحليل المحتوى الفكري والفقهي، وتاريخ المكتبات والخزائن الجزائرية. وشكل هذا الجمع بين الخبرات الدولية والمعرفة المحلية العميقة بالتراث الجزائري نقطة قوة أساسية للملتقى.
نفائس الزوايا والتراث المحلي: معرض يكشف كنوزاً مكنونة
لإضفاء بعد عملي وتوضيحي على النقاشات النظرية، نُظم على هامش الأشغال العلمية معرضٌ وثائقي قيّم لبعض نوادر التراث الجزائري المخطوط، شكّل نافذة حية ومباشرة على ما تزخر به المؤسسات والهيئات المحلية من كنوز دفينة. وقد برزت في المعرض مشاركة مديرية الثقافة لولاية خنشلة، وجمعيات أهلية نشطة في مجال التراث، وعلى رأسها جمعية أبي إسحاق اطفيش من غرداية، المعروفة بجهودها في حفظ تراث المنطقة. كما كانت مشاركة زاوية “سي الخوثير” العريقة من ولاية سطيف (دوار لحميات، بلدية عين الحجر) لافتة بشكل خاص ومثالاً حياً على دور الزوايا التاريخي. وكما أوضح البروفيسور رشيد بلعيفة، عميد كلية الآداب واللغات بجامعة خنشلة والناطق الرسمي باسم الزاوية، فقد عرضت الزاوية مجموعة مختارة من مخطوطاتها النفيسة التي توارثتها الأجيال. وشملت المعروضات نماذج قيمة ونادرة، مثل ثلاثة أجزاء من شرح الخرشي على مختصر سيدي خليل في الفقه المالكي (مؤرخة بحوالي 1100هـ/1700م)، ومخطوطاً قيّماً في التصوف (يعود لحوالي 1200هـ/1800م)، بالإضافة إلى قطعة فريدة بكل المقاييس: مصحف شريف كامل كُتب كاملاً بخط يد سيدة طاعنة في السن حوالي عام 1800م، وهو ما يبرز الأدوار المتعددة، التي قد لا تكون دائماً في الواجهة، للمرأة في الحفاظ على التراث ونقله. هذه المشاركات النوعية لم تثرِ المعرض فحسب، بل عكست بشكل ملموس الدور التاريخي المحوري الذي لعبته ولا تزال تلعبه الزوايا والمؤسسات التقليدية في الجزائر في حفظ وصون ونقل التراث المخطوط عبر القرون، مما أتاح للحاضرين فرصة نادرة لمعاينة جزء من هذا الإرث العظيم بشكل مباشر وتقدير قيمته المادية والفنية والمعرفية.
نحو استدامة الجهود: نشر وتكريم وتطلعات مستقبلية واعدة
إدراكاً لأهمية توثيق المادة العلمية الغنية التي قُدمت ونوقشت، أكد منظمو الملتقى، ممثلين في مخبر الدراسات والبحوث التاريخية في التراث والحضارة بجامعة خنشلة، التزامهم الراسخ بطبع ونشر أعمال الملتقى في كتاب جماعي محكّم، ليكون سجلاً دائماً للنقاشات العلمية ومرجعاً أساسياً متاحاً للباحثين والطلاب والمهتمين داخل الجزائر وخارجها، ولتوسيع دائرة الاستفادة من نتائجه. ولم يُنظر إلى هذه الطبعة الأولى للملتقى كحدث منفصل، بل كحلقة أولى ضمن مشروع علمي أكبر ومستدام، يهدف إلى بناء تراكم معرفي ومنهجي ومتابعة الإشكاليات المتعددة المتعلقة بالتراث المخطوط عبر سلسلة من الفعاليات والورشات المتخصصة في المستقبل. وفي ختام فعاليات الملتقى التي امتدت ليومين حافلين، تم تكريم المشاركين والمنظمين والداعمين واللجان العلمية والتنظيمية، تقديراً لجهودهم المخلصة التي ساهمت في إنجاح هذا الحدث العلمي الهام. وحملت التوصيات الختامية والتطلعات المستقبلية التأكيد مجدداً على الالتزام بترجمة مخرجات الملتقى إلى خطوات عملية، والبناء على الاتفاقيات الهامة التي تم توقيعها، وتحويلها إلى تعاون ملموس وفعال على أرض الواقع، خدمةً لهذا الإرث الحضاري العظيم. إذ يُعد هذا التراث المخطوط ركيزة أساسية للذاكرة الجماعية ومكوناً حيوياً للهوية الوطنية الجزائرية بأبعادها الثقافية والعلمية والحضارية، والعمل على استعادته ودراسته ونشره هو واجب وطني وعلمي لا يحتمل التأجيل.