الإنسان الرقمي وصناعة الحضارة: بين الوفاء للثوابت وخطر الاستلاب

د. بن زموري محمد / في زمنٍ لم تعد فيه المسافات تقاس بالكيلومترات ولا الثقافات تُحَدُّ بالحدود الجغرافية، ولد الإنسان الرقمي. ولد من رحم ثورة عارمة هزت العالم كله: الثورة المعلوماتية، فغدت حياة الإنسان الجديد معقودة بالشبكات الافتراضية، معلقة على أنامل تضغط أزرار الأجهزة الذكية، تبحر عبر محيط لا متناه من الصور والأفكار والمشاعر المصطنعة. …

أبريل 28, 2025 - 14:38
 0
الإنسان الرقمي وصناعة الحضارة:  بين الوفاء للثوابت وخطر الاستلاب

د. بن زموري محمد /

في زمنٍ لم تعد فيه المسافات تقاس بالكيلومترات ولا الثقافات تُحَدُّ بالحدود الجغرافية، ولد الإنسان الرقمي. ولد من رحم ثورة عارمة هزت العالم كله: الثورة المعلوماتية، فغدت حياة الإنسان الجديد معقودة بالشبكات الافتراضية، معلقة على أنامل تضغط أزرار الأجهزة الذكية، تبحر عبر محيط لا متناه من الصور والأفكار والمشاعر المصطنعة.
لم يعد الإنسان هو ذاك الكائن المرتبط عضويا بمكانه وزمانه وجماعته، بل بات نسخة مفتوحة، قابلة للتحديث، معرضة للتحميل والتنزيل، في عالم لا يعترف بثابت إلا سرعة التحول ذاتها.
الإنسان الرقمي هو ابن الشاشة قبل أن يكون ابن الأرض. يتنفس عبر التطبيقات والمنصات كما يتنفس الهواء. لا يقف عند باب مكتبة لينقب عن المعرفة، بل يرسل سؤالا عابرا لمحرك بحث فتنهال عليه ملايين النتائج في أقل من رمشة عين. إن هذا الإنسان لا يعيش فقط في عصر التكنولوجيا، بل يعيش بها ومن خلالها، يفكر بطريقة شبكية، ويُكَوِّنُ علاقاته الاجتماعية بناءً على التواصل الافتراضي أكثر من التماس الواقعي، بل أضحى بناء الهوية الذاتية نفسها يتم عبر تلك المساحات الرقمية، التي أصبحت بحق وطن الإنسان المعاصر.
هذا التحول في ماهية الإنسان جَرّ معه تحولات أعمق في بنية الحضارة. فالحضارة التقليدية كانت تبنى بالحجر والعرق، بالتراكمات الثقافية، بالذاكرة الجمعية للأمم. أما اليوم، فإن الحضارة الرقمية تُنسج من تدفق البيانات، من ذكاء الآلات، من الابتكار البرمجي. لم يعد معيار الحضارة وفرة الإنتاج الزراعي أو الصناعي فحسب، بل أصبح أيضا مدى السيطرة على تدفقات المعلومات والقدرة على تشكيل العقول والميول والاتجاهات.
غير أن هذا الإنسان الرقمي، وهو يسابق الزمن لاحتلال مكان في هذه الحضارة الجديدة، يجد نفسه أمام سؤال لا مفر منه: أين هي ثوابته؟ أين دينه وأخلاقه وهويته في هذا الخضم العاصف؟ وكيف يمكنه أن يصنع حضارة رقمية حقيقية دون أن يسقط في فخ الاستلاب، ذلك الفخ الذي يجعل الإنسان عبدا للتقنية بدل أن يكون سيدها؟
الثوابت الإنسانية ليست مجرد مظاهر موروثة أو شعارات جامدة، بل هي الروح العميقة التي تمنح الإنسان معناه وتربطه بجوهر وجوده. الثوابت هي الإيمان بالله، والالتزام بالقيم الأخلاقية، والانتماء لجذور ثقافية أصيلة، والإحساس بالمسؤولية الجماعية تجاه المجتمع والبشرية. هي ما يجعل الإنسان إنسانا قبل أن يكون رقميًا أو تكنولوجيًا. ولئن كان التطور ضرورة لا مهرب منها، فإن الذوبان في مستنقع التغيير دون معيار حاكم، أشبه بانتحار بطيء للذات الفردية والجماعية.
إن التحدي الجوهري اليوم يتمثل في قدرة الإنسان الرقمي على الوفاء لثوابته وسط سيل من التحديات. ومن أبرز هذه التحديات، ما يمكن تسميته بالاستلاب الرقمي. والاستلاب في معناه العميق هو أن يفقد الإنسان حريته الداخلية واستقلاله الفكري، فيغدو مُسيّرًا بما تبثه إليه الآلة الذكية، بدل أن يكون حرا فيما يتلقاه ويقبله ويرفضه. لقد حذر الكثير من الفلاسفة المعاصرين، مثل “هربرت ماركوز” و”جاك إلول”، من أن التقنية إذا لم تُضبط بمعايير أخلاقية صلبة، فإنها ستتحول من أداة لخدمة الإنسان إلى أداة لاستعباده.
في السياق الرقمي الحالي، تبدو مظاهر الاستلاب جلية لا تخفى. يكفي أن نلقي نظرة على وسائل التواصل الاجتماعي لنكتشف إلى أي مدى يتم توجيه الرأي العام عبر الخوارزميات الخفية، وكيف تُزرع الأفكار والقيم داخل العقول بأسلوب غير مباشر لكنه فعال إلى حد مذهل. الإنسان الرقمي يعيش في “فقاعة فلترة”، حيث يرى فقط ما تحب أن تريه إياه الآلة الذكية، فتتشكل قناعاته دون أن يشعر، وتُعزز ميوله دون أن يتاح له مجال للمراجعة النقدية.
الأمثلة المعاصرة كثيرة. يكفي أن نلاحظ كيف أن الكثير من الشباب يتبنون قضايا أو شعارات عالمية فقط لأنها رائجة على المنصات، دون أن يفكروا مليا في مضامينها ومآلاتها. قضايا الهوية الجنسية، والنزعات الفردانية المطلقة، ونظريات التفكيك الثقافي، أصبحت تنتشر بين الشباب العربي والمسلم كالنار في الهشيم، دون كثير تمحيص أو تمييز. إن التأثير الخفي للألعاب الإلكترونية، للدراما الرقمية، للموسيقى العالمية، كل ذلك يسهم يوما بعد يوم في إعادة تشكيل وجدان الإنسان المعاصر، ليغدو كائنا معولما، منزوع الجذور، خفيف الارتباط بالثوابت الكبرى.
ولعل أخطر مظاهر الاستلاب الرقمي أن الإنسان صار يطلب المعنى من خارج نفسه، من التفاعل اللحظي، من عدد الإعجابات والمشاركات، حتى أصبحت قيمة الذات مرهونة بنجاحها الرقمي أكثر من ارتباطها بحقيقتها الداخلية. لم يعد الشاب يسأل: “من أنا؟”، بل يسأل: “كم عدد المتابعين لدي؟”، “ما مدى انتشار منشوراتي؟”، وكأن الوجود ذاته أصبح مشروطا بالظهور على الشاشات.
في خضم هذا المشهد القاتم، يبرز سؤال النجاة: كيف نصنع حضارة رقمية تحترم الثوابت وتقاوم الاستلاب؟
أولا، لا بد من وعي عميق بطبيعة التحدي. فالتقنية ليست عدوا ينبغي محاربته، بل أداة ينبغي ترويضها وتسخيرها لخدمة الإنسان في أفقه الأخلاقي والثقافي والديني. لا سبيل للهرب من العصر الرقمي، لكن هناك سبيل للانخراط فيه بوعي ونقد وحكمة.
ثانيا، ينبغي أن تتجدد عملية التربية لتشمل التربية الرقمية، أي تنشئة الإنسان على مهارات التفكير النقدي، التحقق من المعلومات، مقاومة الإدمان الرقمي، حماية الخصوصية، واحترام كرامة الذات والآخرين. على المؤسسات التربوية والثقافية والدينية أن تعيد تعريف رسالتها بما يواكب العصر دون أن تفرط في جوهر رسالتها.
ثالثا، يحتاج العالم العربي والإسلامي إلى إنتاج محتوى رقمي بديل، منافس، قادر على شد انتباه الشباب دون أن يتنازل عن قيمه. فمنصة تقدم ألعابا رقمية تحترم القيم، أو مسلسلات قصيرة رقمية تزرع المعنى، أو قنوات تفاعلية تعليمية تبني التفكير النقدي، كلها أدوات ضرورية لإعادة التوازن.
رابعا، من المهم بناء منصات للحوار الفكري العميق داخل الفضاء الرقمي، منصات تسمح للشباب بطرح الأسئلة الكبرى عن الدين والهوية والمعنى والغاية، دون خوف أو تجريم، وفي إطار من الاحترام المتبادل والبحث المشترك عن الحقيقة.
خامسا، على المفكرين والباحثين تطوير نظريات جديدة قادرة على تفسير الواقع الرقمي ومواجهة تحدياته. فالاجترار النظري التقليدي لم يعد كافيا، بل لا بد من اجتهاد علمي وفلسفي جديد يدمج المعطيات التكنولوجية في منظومة التفكير الأخلاقي والثقافي.
إن المعركة ليست بين الماضي والمستقبل، ولا بين الثابت والمتحول، بل هي معركة من أجل الحفاظ على إنسانية الإنسان وسط سيل من العوامل التي تهدد بجعله مجرد رقم في منظومة كونية بلا قلب. وكما كتب “طه عبد الرحمن”، فإن “الحداثة ليست نهاية الإنسان، بل بدايته الحقيقية حين يعي وجوده الأخلاقي ومسؤوليته الكونية”.
إن الحضارة الرقمية الأصيلة لا تُبنى بإدمان التطبيقات والتقنيات فحسب، بل تبنى ببناء الإنسان الرقمي الكامل: إنسان يعرف من أين أتى، ولماذا جاء، وإلى أين يتجه. إنسان يعيش التقنية لا لتحل محله، بل لتعبر عن رسالته. إنسان رقمي في أدواته، إنساني في جوهره، رباني في غايته.
وحده هذا الإنسان يستطيع أن يصنع حضارة رقمية تنتمي إلى جذور ضاربة في التاريخ، وتسمو إلى آفاق مستقبلية رحبة، حضارة لا تبتلع الثوابت بل تحييها، ولا تقتل الهوية بل تثريها، ولا تستعبد الإنسان بل تحرره.
في النهاية، يتوقف مصير الحضارة الرقمية على سؤال بسيط وعميق:
هل سنظل نلهث خلف التقنية حد الاستلاب، أم سنمتطيها لتحقيق المعنى الحقيقي للإنسان؟
الإجابة رهن بالوعي الذي نحمله اليوم، وبالخطوات التي نخطوها غدًا.