نماذج راقية لأسر عالمة جزائرية
د. عبدالقادر بوعقادة */ لاتزال الأسر العالمة حاضرة بأفرادها – كأجداد وآباء وأبناء وأحفاد- في تاريخ المغرب الأوسط «الجزائر حاليا»، وإذ أحصينا سابقا أزيد من عشرة بيوتات علم، فالمصادر لا تزال حبلى ببيوت تداولت العلم وكان لها من التأثير والبروز ما جلب انتباه الناس إليها فرحلوا نحوها يلتمسون الزاد المعرفي وتناول الرواية والإجازة بالملازمة الدائمة. …

د. عبدالقادر بوعقادة */
لاتزال الأسر العالمة حاضرة بأفرادها – كأجداد وآباء وأبناء وأحفاد- في تاريخ المغرب الأوسط «الجزائر حاليا»، وإذ أحصينا سابقا أزيد من عشرة بيوتات علم، فالمصادر لا تزال حبلى ببيوت تداولت العلم وكان لها من التأثير والبروز ما جلب انتباه الناس إليها فرحلوا نحوها يلتمسون الزاد المعرفي وتناول الرواية والإجازة بالملازمة الدائمة.
أفاد ابن مريم في «البستان» بأسر عالمة كانت بتلمسان وما جاورها، فذكر من بين الأسر آل المديوني، حين تكلم عن زعيم البيت الشيخ يحيى بن محمد المديوني المكنى (أبو السادات) والمعروف بالفقه والورع، وكان قد تتلمذ على إمام العصر العلامة محمد بن يوسف السنوسي، حيث أخذ عنه الفقه والأصول والبيان والمنطق، ثم امتد العلم في بيته إلى ابنه محمد (ت 950هـ/1544م)، وهو الفقيه أيضا المعتبر من الأئمة ذوي الصلاح والولاية، ليرثهما في هذا المنحى الحفيد محمد بن محمد بن يحيى المديوني المتوفى سنة 981هـ/1574م، الذي كان فقيها وحافظًا وحجة نظارًا ومدرسًا. ويذكره أنّه كان يجمع بين المعقول والمنقول، وكان مهتما بمختصري ابن الحاجب والشيخ خليل في الفقه، وتخرج على يديه جماعة من الفقهاء النبهاء. وفي السياق يشير القرافي في التوشيح إلى مديوني يوصف بالفقيه المحدث الصالح هو أحمد بن الحسين بن سعيد المديوني ت768هـ/1367م، الواصل مرتبة قاضي الجماعة بتلمسان، وقد خلفه حفيده العلامة محمد بن أبي مرزوق.
كما يوجهنا البلوي في ثبته إلى بيت علم آخر كان يتزعمه إبن وخال، يأتي الإبن أبو عبد الله محمد بن صعد الأنصاري صاحب النجم الثاقب(ت901هـ) كزعيم لهذه الأسرة، أخذ عن جلة من العلماء أبرزهم خاله أبو عبد الله محمد بن الحباك التلمساني (ت.867هـ/1463م) الفقيه العددي الفرضي الممثل للتيار العقلي بتلمسان والمغرب الأوسط. كما تشير المصادر إلى أسرة مرموقة زعيمها الشيخ الوالد الحسن بن مخلوف الشهير بالولاية والعلم، وابنه محمد بن الحسن بن مخلوف الراشدي المعروف بأبركان والموصوف بالعلم والحفظ. وجلّ هذه الأسر كانت تشتهر بصفات الفقه والعلم والزهد، حيث مزجت بين التوجه الروحي والعطاء الفقهي العلمي.
تبرز أسر أخرى مختصّة بالفقه والقضاء، حيث يشير الونشريسي في وفياته إلى صاحب النوازل يحيى بن موسى المغيلي الذي تولى قضاء مازونة، واعتبره فقيها فاضلاً. ويذكر التنبكتي بأنّ الونشريسي قد استمد منه في نوازله، وكانت وفاته سنة883 ه/1479م، وكان والده موسى بن عيسى قاضيا بمازونة اهتم بالدرس والتحقيق والتوثيق، فألّف كتاب الرائق في تدريب الناشئ من القضاء وأهل الوثائق، ويظهر من خلال التحري بأنّ جدّ يحيى بن موسى كان من طبقة العلماء الذين يُعتد به. ويحضر بيت آخر اهتم بالوثائق – الملحقة بالقضاء- حيث تحدث ابن مرزوق صاحب المسند عن أبي عبد الله محمد بن منصور القرشي، فيذكره بالقاضي العدل، وصاحب بصر ونفوذ بالأحكام والوثائق، وقد وثّق نسبه فردّه إلى عقبة بن نافع، وخلف القرشي ولدًا هو أبو علي منصور المشهور بالخطابة، وكان من صنف العلماء، وكان خلفهما كثير.
اشتغلت بعض البيوتات بالقضاء فقط، حين تقلّده أفرادها وتوارثوه. فقد حدثنا الغبريني عن بيت جزائري هاجر أهله إلى الأندلس لأجل القضاء، ثم عاد أفراده إلى المغرب الأوسط متمسكين بنفس المهمة، ففي حديثه عن عبد الله بن حجاج بن يوسف الجزائري (ت. 750هـ/1350م) يذكر بأنّ أباه كان ذا فضل وعلم، وقد تولى قضاء الجزائر، ثم انتقل إلى بجاية قاضيًا، وطالت مدّته به، ثم دخل الأندلس فتولى قضاءها، ولكنه كان لا يأكل إلاّ من عقار له بالجزائر، وحينما توفي خلفه خمسة من الأبناء كلهم قضاة، فأبو زيد عبد الرحمن قاضي قسنطينة والجزائر. وأبو عبد الله الذي كان أكثر تخصصًا، وأبو محمد عبد الواحد فقيه وخطيب بجامع الموحدين ومتولي قضاء بجاية، وأبو علي عمر تولى قضاء بعض كور بجاية ثم قضاء الأنكحة، وأما أبو العباس فكان من الصلحاء الفضلاء اشتغل بنفسه.
أشارت الأخبار إلى بيوت توارثت القضاء -أيضا- ومنهم قاسم بن محمد القسنطيني الوشتاتي ت.847هـ/1444م، المكنى أبا القاسم وأبا الفضل، كان مفتي الأنام ورئيس الفقهاء وحجة عصره، اشتهر باهتمامه بدراسة العلوم العقلية والنقلية. كما تولى قضاء الجماعة بتونس، كانت له مع العلامة أحمد بن عمر القلشاني -شارح الرسالة- واقعة حيث رام قتله. وحينما قتل الوشتاتي القسنطيني سنة 847هـ/1444م تولى القضاء بدله ابنه أحمد أبو العباس، كما تولى هذا الإبن التدريس بالمدرسة المنتصرية سنة 858ه/ـ1455م، وكانت وفاته سنة 864 هـ/1460م ولم يتجاوز 41 عامًا.
وتبرز دُورٌ أخرى للعلم كانت تهتم بالفقه والقضاء والفتيا، ولكنها هاجرت نحو تونس كآل الرّصاع الذين تولوا هناك الإمامة والخطابة بالزيتونة، وتصدى أفرادها للإقراء والفقه، بل صار قضاء الجماعة والإفتاء بتونس من نصيبها. وكان أبرز أعلامها محمد بن قاسم أبو عبد الله الرصًاع المتوفى سنة 894هـ، والذي يعرف بمصاحبته لابن عرفة والبرزلي وقد صار آل الرصاع بفضل علمهم واجتهادهم من كرائم عائلات الأنصار بتلمسان وتونس، وهذا منذ كان جدهم نجارًا مشهورا بالبراعة في الصناعة والترصيع، حيث قام على ترصيع جامع العباد، و هو ما شفع له أن يُدفن بجوار أبي مدين الغوث، فنالت العائلة شرفًا عظيما وقربهم الأمراء.
وأسر رحلت نحو المغرب الأقصى مبكرا، وأنجبت علماء غاية في الفهم والنجابة. ففي أثناء التعريف بابن عطية الونشريسي وأهل بيته يقدم لنا الونشريسي تفصيلا لأصوله، حيث تحدث عن الجدّ عطية الذي ارتحل عن بلده ونشريس إلى المغرب زمن السلطان أبي يعقوب الموحدي، وقد كان فارسًا شجاعًا ومتصوفا، وكان له أولاد نجباء، أكبرهم عثمان الذي أنجب من الأبناء أبا علي وعبد الله والحسن ويونس وإبراهيم، وكلهم صاروا فقهاء، كالفقيه القاضي الحسن أحد المفتين بفاس، الذي تسمّى بابن رشد لحفظه كتابه، وتولى القضاء زمن أبي الحسن المريني.
هذه نماذج من الأسر العالمة المميّزة فقها وتصوفا ومنطقا إذ نكتفي بالقليل عنها، فإنّنا نجزم بأنّ التنقيب عن تراثها لا يزال يحتاج إلى مزيد من الجهد البحثي لتقديم صورة صادقة على حضور العلم والعلماء بالجزائر عبر حقب التاريخ. ونؤكد على وجود بصمة تراثية وعلمية لفقهاء المغرب الأوسط» الجزائر» كان لها وقعها على مستوى الحضارة الإسلامية والتراث الإنساني، ممّا يفرض مزيدا من العناية بهذا التراث التليد، ونؤكد بأنّ وثائق التاريخ تكتنزها بيوت الجزائريين العريقة، ومتوافرة في خزائن الكتب عبر العالم تحتاج إلى من يتناولها، ولن يكون هذا إلاّ بوجود نخبة باحثة وسلطة راغبة في استرجاع تراث مكنّز ومهرّب يمثل هوية الأمة ورصيدها الضائع.
* جامعة البليدة 2