أولياء المترشحين للبكالوريا أكثر وجعا من المترشحين أنفسهم

على بعد ساعة زمن عن الموعد الحاسم، وبالضبط في السابعة والنصف من نهار الأحد، قبالة ثانوية “الحرية” بقسنطينة، وهي أقدم ثانوية على المستوى شرق البلاد، جلست سيدة قاربت الخمسين، وحيدة، تقضم أظافرها، شاردة الذهن، يبدو عليها شحوب لظرف طارئ، تحاول أن ترسم على محياها ابتسامة، ولكنها تعجز، عندما يغلب لمعان عينيها ملامح وجهها، بينما يأخذ […] The post أولياء المترشحين للبكالوريا أكثر وجعا من المترشحين أنفسهم appeared first on الشروق أونلاين.

يونيو 15, 2025 - 16:34
 0
أولياء المترشحين للبكالوريا أكثر وجعا من المترشحين أنفسهم

على بعد ساعة زمن عن الموعد الحاسم، وبالضبط في السابعة والنصف من نهار الأحد، قبالة ثانوية “الحرية” بقسنطينة، وهي أقدم ثانوية على المستوى شرق البلاد، جلست سيدة قاربت الخمسين، وحيدة، تقضم أظافرها، شاردة الذهن، يبدو عليها شحوب لظرف طارئ، تحاول أن ترسم على محياها ابتسامة، ولكنها تعجز، عندما يغلب لمعان عينيها ملامح وجهها، بينما يأخذ ابنها المترشح لشهادة البكالوريا في شعبة رياضيات تقني، هندسة الطرائق، آخر النصائح النفسية والتنظيمية قبل حصة اللغة العربية، من والده أي زوجها، ثم تُخفي نهائيا وجهها بكفيها، حتى تسافر في أدعية لا تتوقف.
منظر الأولياء وهم يشيُعون ويحتفون بأبنائهم إلى مراكز الامتحانات يبين مدى احترام الجزائريين لهذه الشهادة الفاصلة ما بين التعليم الثانوي والجامعة أو ما بين الترقّب والفرحة الكبرى.
تقول سيدة نالت شهادة البكالوريا في سنة 1982، ولها ابنة تمتحن في شعبة اللغات: “البكالوريا مازالت محافظة على قدسيتها، تخيف الجميع، الأم تهتم بأمرين في حياة ابنتها أكثر من كل الأمور، البكالوريا والزواج، يوم الخميس عندما تنهي ابنتي الامتحان سأشعر بجبل ينزاح عن كتفي، لم أنم منذ أسبوع ولا أظنني أنام خلال هذا الأسبوع، إنها مشاعر لا يمكن سوى لمن يحياها التعبير عنها”. ويقول زوجها وهو أستاذ في المتوسط متقاعد: “البكالوريا وحدها ما يمنحنا الشغف والفرح أيضا، أفهمت ابنتي بأن الهدف هو النجاح فقط، كل تخصّصات الجامعة مثيرة للاهتمام، وسأطير فرحا حتى لو حصلت على معدل عشرة، وسأقيم لها حفلة نجاح في كل الظروف، أبعدت عنها الضغوط حتى تمضي امتحانها في هدوء، وعند إعلان النتائج أيضا”، وتعود زوجته لتقول إن المعدلات صارت تفسد الفرحة عكس سنوات الثمانينيات، حيث يسأل الناس في زمنها الثمانيني عن النجاح فقط، وهم الآن يسألون عن المعدل مختصرة المشهد: “هناك ناجحين يبكون حسرة أكثر من الراسبين”.
وليّ آخر يشتغل أعمالا حرة، لم يتمكّن من التعليم الثانوي في صغره، له ابنة ضمن الأحرار وأخرى نظامية: “أظنني صرفت حوالي خمسين مليون سنتيم في الدروس الخصوصية، ولو سايرت ابنتي الاثنتين لاستدنت عشرات الملايين، ليت الأمر توقف عند الماديات، فقد عشت حالة نفسية سيئة جدا مع توتر ابنتي النظامية فهي مرة متفائلة ومرة متشائمة وأحيانا تبكي ونادرا ما تضحك، وهذا الصعود والنزول يضعني في حالة معنوية صعبة، وأحس أنني في خطر إلى غاية يوم الإعلان عن النتائج”.
عضو بجمعية أولياء التلاميذ بثانوية “يوغرطا” بقسنطينة أحصى ما يتكبده رب الأسرة خلال موسم بكالوريا ابنه: “أصرف وأمرض وأخاف، وإذا اجتمع هذا الثلاثي، فأنت في حالة بؤس متقدمة جدا”.
هناك أولياء فضّلوا في السنة النهائية، نقل أبنائهم إلى مدارس خاصة، بعد أن صار التلاميذ يودعون الثانويات النظامية مع نهاية الثلاثي الأول فتتوقف الدراسة نهائيا، فوضعوا ميزانية كاملة في الثانوية الخاصة، ثم وجدوا أنفسهم مجبرين على الدفع أيضا لأجل الدروس الخصوصية، وهناك وليّ يقول بأن الموسم كلّفه ربع مليار سنتيم، ثم يقولك “المهم النجاح”.
النفسانية فاطمة عكريش ترى في حديثها لـ”الشروق اليومي”، بأن الأولياء يحتاجون إلى نصائح نفسية، فاهتمامهم بالحدث المبالغ فيه أمام مرأى الابن أو الابنة، قد يؤثر على الطالب الممتحن فيشكل ضغطا عليه، قد يوترّه في يوم الامتحان، وتنصح الأولياء الذين لهم مستويات النهائي أو لهم شهادات جامعية، أن يسجلوا ضمن الأحرار فيقضون السنة مع ابنائهم في الدراسة ويجتازون معهم البكالوريا.
وتطلب النفسانية فاطمة من الأولياء أن لا يسألوا أبناءهم عن نوعية الأسئلة وكيف كانت إجاباتهم، فالسؤال لا يغيّر الوضع ويسبب ضغطا مضاعفا على الابن.
في المقابل، شكّل الأولياء الذين تواجدوا أمام مراكز الامتحان وسياراتهم، الديكور الطاغي بحركتهم وتنقلهم هنا وهناك، فقد بدوا في أحلى زينتهم وحتى سياراتهم غسلوها، في أجواء تشبه الأعراس من حيث الحضور القوي، وبمجرد أن يختفي ابنهم أو ابنتهم في قلب مركز الامتحان في الجو المهيب، حتى يعودوا إلى حياتهم ضاربين موعدا مع الخروج من الامتحان زوالا، حيث تكون الوجبة الغذائية مدروسة، بين ما يشتهيه المترشح للبكالوريا وما خفّ على البطن لتفادي أي طارئ.
اللباس الأنيق للمترشح ولوالديه ومن يرافقه من شقيق أو جدّ، والأكل اللذيذ، هي أمور لا نقاش فيها، تكون مصحوبة بشلال من الأدعية، بعض الأمهات تكتب الأدعية التي خطفتها من كتاب أو من موقع ديني في قصاصة ورقية، فتخرج الورقة ولا تخفيها إلا بعد أن تقرأ الدعاء في خشوع وتؤمّن.. آمين.
لقد عمل الأولياء طوال الموسم على توفير كل الظروف الاجتماعية والمادية والبيداغوجية لأبنائهم، إلى درجة – كما روى لـ”الشروق اليومي” أحد المحامين – أن زوجين مطلقين منذ سنوات قررا استرجاع علاقتهما الزوجية ولو لبضعة أشهر، من أجل ابنهما الذي اجتاز البكالوريا.
الأولياء وفّروا مصاريف الدروس الخصوصية، وضغطوا على أنفسهم، لأجل توفير غرفة مريحة لابنهم أو ابنتهم المعنية بالبكالوريا، ودفعوا من جهدهم وسهرهم وصحتهم الكثير، وكل ذلك يهون إذا ابتسم الابن بعد نهاية الامتحان في وجه أبيه، معلنا تمكّنه من الإجابة الصحيحة الممهدة لإمكانية النجاح.
الدموع والعرق الذي يذرف طوال الموسم ويتحول إلى شلالات في أيام الامتحان من أعين الأولياء، والأموال التي تصرف من عائلات، بعضها بالكاد تقضي يوما ماديا بسلام، والاهتمام المتزايد للعائلات، كلها تؤكد بأن للبكالوريا مكانة خاصة للجزائريين.. كل الجزائريين.

شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين

The post أولياء المترشحين للبكالوريا أكثر وجعا من المترشحين أنفسهم appeared first on الشروق أونلاين.