الأخلاق مِلاط(1) المجتمع ومادة ترابطه ووحدته

أ‌- كمال بن عطاءالله/ مما أصبح سائدا و متفقا عليه عند العقلاء في المجتمعات الواعية من خلال كتاباتهم ودراساتهم الجامعية، بعد الانهيار الأخلاقي الذي تعيشه الأوساط الغربية المهيمنة، والتحولات النفسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم، والنتائج الوخيمة للحروب العالمية والإقليمية وما تولد عنها من دمار أخلاقي فضيع، أصبح لديهم المراجعة واجبة للرجوع إلى السّلم من خلال …

مارس 26, 2025 - 12:53
 0
الأخلاق مِلاط(1) المجتمع ومادة ترابطه ووحدته

أ‌- كمال بن عطاءالله/

مما أصبح سائدا و متفقا عليه عند العقلاء في المجتمعات الواعية من خلال كتاباتهم ودراساتهم الجامعية، بعد الانهيار الأخلاقي الذي تعيشه الأوساط الغربية المهيمنة، والتحولات النفسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم، والنتائج الوخيمة للحروب العالمية والإقليمية وما تولد عنها من دمار أخلاقي فضيع، أصبح لديهم المراجعة واجبة للرجوع إلى السّلم من خلال تاريخ كل أمّة وما تستفيده منه ليضيء طريق مستقبلها، وبعيدا عن هوس التسلّط والهيمنة والرجوع بالإنسان إلى فضائله الأخلاقية والتي يعبّرون عنها بمجموعة القيم والقواعد التي تحكم سلوك الفرد وتوجّهاته في التعامل مع الآخرين والبيئة المحيطة به وتشمل مفاهيم عدة منها:( الصدق والأمانة، العدل والمساواة، الرحمة والتعاطف، الاحترام والتقدير، المسؤولية والالتزام…)، وقد يختلف الكثير في تحديد ذلك عمليا فيما سبق ذكره وغيرها من الفضائل الإنسانية الأخلاقية حسب مرجعية كل فرد الفكرية والدينية، فاللاديني(2) مقاربته تختلف عن صاحب الدين والمسلم الموحد ولا شك بعيد عن هؤلاء في تصوراتهم جميعا لأنّ مرجعيته هي الوحي المنزّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوك الصحابة وغيرهم من الأئمة الأعلام والمصلحين والقدوة الحسنة لنا، رأسا في كل ذلك عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم عندما زكّاه رب العالمين في قوله تعالى: «و إنّك لعلى خلق عظيم»(3)، فرسول ربّ العالمين منذ نشأته وقبل البعثة وهو المثال في الأخلاق ووصفه أهل قريش أنّه الصادق الأمين وهو الذي اختارته خديجة بنت خويلد زوجته- فيما بعد- رضي الله عنها ليكون راعيا لتجارتها ولصدقه وشارك في حلف الفضول، و قال عنه الصحابي الجليل خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه:» كان رسول الله صلى الله وسلم أحسن النّاس خلقا»، وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:» أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»(4).
وقال صلى الله عليه وسلم:» إنّ أحبّكم و أقربكم مّني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا»(5) ، وقال أيضا عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم:» إنّـما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(6) ، ومما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله عنه:»يا أبا هريرة عليك بحسن الخلق»، قال أبو هريرة رضي الله عنه : وما حُسن الخلق يا رسول الله صلى عليه وسلم؟، قال: تصل من قطعك وتعفو عن من ظلمك وتعطي من حرمك «(7) وفي رواية عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم :» ما من شيءٍ أثقلُ في ميزانِ المؤمنِ يومَ القيامةِ من خُلقٍ حسنٍ وإنَّ اللهَ يُبغضُ الفاحشَ البذيءَ»(8).
وقال الفضيل بن عياض- عابد الحرمين- 107)هـ – 187 هـ( قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:» إنّ فلانة تصوم النهار وتقوم الليل، وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها، قال :» لا خير فيها، هي من أهل النار» وقال أبو الدرداء رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» أول ما يوضع في الميزان حسن الخلق والسخاء، ولما خلق الله الإيمان قال اللهم قوّني، فقوّاه بحسن الخلق والسخاء، ولما خلق الله الكفر قال: اللهم قوّني، فقوّاه بالبخل وسوء الخلق.
وصدق الشاعر الكبير أحمد شوقي رحمه الله(1868-1932م) حين قال : «إنّـما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإنْ هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا». ومما قيل في الخُلق الحسن أنّ أمهات الأخلاق وأصولها أربعة : الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل، ولعلها أربعة تقوم عليهم السعادة الفردية والمجتمعية.
وجاءت دعوة ابن باديس(1889-1940م) الإصلاحية في بناء الفرد و المجتمع بمنهج «التخلية و التحلية « وهي التخلي عن الاعتقادات و العادات السيئة الباطلة و التحلّي بالعقائد الإسلامية الصحيحة و الأخلاق النبوية الفاضلة التي تبنى المجتمع وفق منهج يجمع بين الفكر و العمل ويُصلح النّفوس ويقوّمها لتقوم بوظيفة الاستخلاف في الأرض وتتحقق العبودية التي خُلق الإنسان لأجلها، وهي مناط الخلق ووجوده قال الله تعالى: «وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون»(9) والعبادة هي كل عمل وقول وسلوك يرضي الله تبارك وتعالى، والأخلاق ولا شك من العبادات الظاهرة والتي يعود أثرها الإيجابي على الفرد والمجتمع حاضرا ومستقبلا وتجنى ثمارها في التوادُد والتراحم والتعاطف والتعاون والإقلال من الحقد والغلّ والشّجار والفرقة .
كان ابن باديس مدرسة أخلاقية بسلوكه وتصرفاته ومعاملاته، وكانت أقواله ونظرياته صورة صادقة لواقع حياته، وعصارة خالصة لأعماله ومعتقداته، كان رحمه الله نموذجا صادقا وصورة حيّة لتلك المبادئ التي طالما نادى بضرورة العودة إليها، من أجل إنقاذ شعبه وإسعاده.. وكان أسوة في التواضع والتسامح ونكران الذات، وكذلك كان في الصرامة والشجاعة والثبات.
وله من الأخلاق التي وفقه الله ليجد المكانة عند إخوانه وأهله و القبول بين طلابه ومحبيه «إن التواضع من خصال المتقي… وبه التقي إلى المعالي يرتقي»، وهو المتواضع المتفاني في التضحية والبذل ولا يملّ في خدمة غيره ولعلّ من أهم ما يستدلّ به أنّه لا ينام إلاّ ست ساعات في اليوم و الليلة وبقيتها بين التدريس والكتابة والاهتمام بأحوال أبناء وطنه، كان رحمه الله حليما متسامحا حتى مع خصومه ولعلّ حادثة الاغتيال 1926م أشهر من علم. ومع هذا كان شجاعا قوّالا للحق صارما فيه بجرأة مناسبة من غير تهوّر ولا انكسار وله من المقالات التي كانت تواجه الأحداث وتحلّلها وتُنيط اللثام عن أسبابها وتحدّد الحلول لها سواء مع أعداء الإصلاح الموالين للمستدمر الفرنسي وغيرهم ممن انطلت عليهم الدسائس والتحفوا برداء الجهل والمصلحة، فكان شديدا مع الأوائل رفيقا بغيرهم.
فمجتمعنا بأفراده وأجياله وتراثه لابد له من العودة الجادّة إلى الأخلاق السامية الفاضلة النابعة من كتاب ربنا وسنّة نبيّنا وسيرة الأئمة وتضحيات شُهدائنا الأبرار الذين حقّقوا كل ما هو نظري واقعا ملموسا من خلال تضامنهم ووحدتهم وتمسّكهم بدينهم فكان ذلك مخرجهم من ضيق الدنيا واستعباد المستدمر البغيض إلى تحرّر النفس من منازع الشرور في ظل عبودية الواحد القهّار وعلى أرض سُقيت بدماء العزّة والكرامة، فبأخلاق الرجال العبّاد تُصان الأعراض وتُحمى الأوطان ويدفع العدو الصائل المتربص في كل حين، ولمواصلة المسير يجب أن نعمل أكثر ولابد لنا من جهد تعاوني من كل المؤثرين والمهتمين بالإصلاح من أجل نشر الفضائل والأخلاق الحسنة وترسيخها ورعايتها، ولابد من توفر من يتولّى ذلك على الأقل:
-1 يجب على المربي أن يكون قدوة لغيره، بأخلاقه الفاضلة، وأن يترفع عن الشبهات، لأنّ النّاس يتخذونه مثلا يحتذى به، وعليه كذلك أن يكون مخلصا في عمله، شجاعا في مواقفه، قويا في شخصيته، رؤوفا بمن بين يديه.
2- إنّ سلوك المربي وأخلاقه الحميدة، تجعل النّاس يطمئنون إليه ويستأمنونه على أحوالهم.
فنشر الأخلاق و الاتصاف بها ليست مرتبطا بفئة دون أخرى أو فرد قبل غيره بل هو واجب إيماني اعتقادي مطلوب من كل مسلم كل في فضائه من الأب والأم في أسرتهما وأمام أولادهما إلى المعلم في مدرسته إلى البنّاء والعمال في ورشهم والفلاحين في حقولهم ومزارعهم والتجار والحرفيين، إلى الصحافي في مقاله والإمام في محرابه، إلى الجندي وهو يدافع عن وطنه من على الثغور، إلى المسؤول الذي ولاّه الله شؤون إخوانه، هؤلاء جميعا وغيرهم مطلوب منهم كل ذلك ليُرضوا ربّهم ويَسْعَدوا و يُسْعِدوا غيرهم في الدنيا والآخرة.

(1)- هو الرابط بين الطوب واللبنات من الإسمنت وغيره (اللصاق).
(2)- هو مذهب لا يؤمن بهيمنة الدين عن حياة الفرد والمجتمع، وتعرف بالعلمانية.
(3)- سورة القلم الآية 04.
(4)- صحيح الترمذي 1162.
(5)- صحيح الترمذي 2018.
(6)- صحيح الجامع 2833.
(7)- رواه البيهقي.
(8)- الترغيب والترهيب للمنذري 3/351 إسناده صحيح، أخرجه أبو داود 4799.
(9)-(الذاريات56).