الأزمة السياسية في فرنسا: دراسة تحليلية للإنعكاسات السوسيو-اقتصادية والمآلات المستقبلية

لقد بات جليا أن تاريخ 9 جويلية 2024 الموافق لحل البرلمان الفرنسي في الفترة الثانية من حكم ماكرون أصبح يمثل منعرجا حاسما في مسار الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فرنسا، وتاريخا مرجعيا لدوامة من الأزمات  التي أدت إلى إقالة أو استقالة ثلاثة حكومات متتالية دون النجاح في تمرير الموازنة، إذ يعتبر لوكورنو رئيس الحكومة الثالث …

أكتوبر 7, 2025 - 10:14
 0

لقد بات جليا أن تاريخ 9 جويلية 2024 الموافق لحل البرلمان الفرنسي في الفترة الثانية من حكم ماكرون أصبح يمثل منعرجا حاسما في مسار الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فرنسا، وتاريخا مرجعيا لدوامة من الأزمات  التي أدت إلى إقالة أو استقالة ثلاثة حكومات متتالية دون النجاح في تمرير الموازنة، إذ يعتبر لوكورنو رئيس الحكومة الثالث الذي لم ينجح في إيجاد توافق بين أطياف المشهد السياسي، وتعتبر استقالة حكومته التي قدمها صبيحة السادس من أكتوبر 2025 التي لم تلبث أكثر من 15 ساعة في مهامها سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجمهورية الخامسة، فبات الشخصية السياسية الأولى التي تخرج من البرلمان قبل دخوله كرئيس حكومة، وهو ما يظهر أزمة سياسية عميقة ذات طابع هيكلي تلقي بضلالها على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي .

خلفيات الأزمة السياسية

كشفت أزمة تفاقم الدين الفرنسي وما صاحبها من ارتدادات مالية واقتصادية وكذا عدم القدرة على اتخاذ قرارات لمواجهتها العديد من الثغرات المرتبطة بالبنية الهيكلية للنظام السياسي في فرنسا الذي وصل في نهاية المطاف إلى انسداد غير مسبوق نتيجة غياب أغلبية مطلقة داخل الجمعية الوطنية، بالإضافة إلى عوامل أخرى كعدم الاعتماد على أغلبية أو كتلة مساندة ،  مما افرز تيارات سياسية معارضة ومناوئة ،وهو الأمر الذي أدى بكلٍّ من اليمين واليسار إلى رفض أعضاء حكومة لوكورنو وانتقاد بقاء الوزارات السيادية على حالها ، وفي ظل تنافس كبير للوصول إلى السلطة بين أحزاب همها الأول هو الظفر بمكاسب انتخابية بغض النظر عن الظروف التي تمر بها البلاد كان الثمن استحالة الوصول إلى توافق سياسي من شأنه ان يحرك الركود في المجالين السياسي والاقتصادي، والآن وبعد تقديم لوكررنو لاستقالته نظرا لاستحالة العمل في ظروف مماثلة، تطفو على السطح ثلاثة خيارات مطروحة أمام الرئيس الفرنسي:

-تكليف شخصية جديدة لتشكيل الحكومة بحيث يرجح أن تكون من اليسار، وهو الأمر الذي قد يعارضه اليمين المتطرف بشدة.

– حل البرلمان مرة أخرى خاصة في ظل إصرار اليمين المتطرف على ذلك  اعتقادا منه وحسب استطلاعات للرأي انه قد يحصل على الأغلبية في حال الذهاب إلى انتخابات تشريعية جديدة، وهي خطوة محفوفة المخاطر قد تفضي في أحسن الأحوال إلى جمود سياسي آخر.

-استقالة الرئيس، وهو حل مستبعد بحكم ان ماكرون كان قد صرّح بشكل لا يدع مجالا للشك انه سيواصل عهدته إلى غاية انقضائها.

توحي المؤشرات التي تم التطرق إليها على الصعيد السياسي أن إمكانية تطبيق حل من الحلول المقترحة هو من الصعوبة بمكان، نظرا “وعلى حد تشخيص لوكورنو لأسباب الاستقالة” إلى تعنت الأطراف السياسية وتبنيها نهج الأنانية عوض إيثار المصلحة الوطنية، بالإضافة إلى ان الخطوط الحمراء لديها أكثر من الخضراء التي يمكن ان تفضي  إلى أرضيات توافق.

الانعكاسات على الصعيدين الاقتصادي والمجتمعي:

باعتبار السياسة والاقتصاد مجالين مترابطين وظيفيا فالأكيد أن التأثير متبادل بينهما، وقد وصل الأمر في الحالة الفرنسية إلى صعوبة فصل  المتغيرين بين تابع ومستقل، لكن يمكن القول إن الاقتصاد الفرنسي الذي شكل نواة الأزمة يعرف تراجعا  كبيرا نتيجة الانسداد السياسي، ومن تمظهرات ذلك مايلي:

-أزمة إنفاق عام لعدم القدرة على تمرير موازنة جديدة والاكتفاء بالعمل بسابقتها وفق مراسيم استثنائية.

– عدم القدرة على إيقاف التراكم المستمر للديون التي فاقت نسبة 114٪ من الناتج المحلي الخام.

– كل هذا أدى الى تراجع المصداقية المالية لفرنسا فتراجع معها التصنيف الإئتماني ، وهو ما من شأنه أن يؤدي إضافة للجمود السياسي إلى امتناع المتعاملين الاقتصاديين عن الدخول في استثمارات على الأقل في المرحلة الحالية إلى حين تعيين حكومة جديدة والتأكد من أن إجراءاتها التقشفية سوف لن تمس بالقطاع الضريبي الذي حافظ عليه ماكرون لصالح المستثمرين، وذلك على حساب الطابع الاجتماعي للدولة بهدف تدفق رؤوس الأموال.

أدى تراجع المداخيل وتفاقم أزمة الديون بالضرورة الى انتهاج سياسة تقشفية أعلن عليها رئيس الحكومة السابق فرانسوا بايرو، وقد أججت سخطا في الشارع الفرنسي بحكم ان خطة ال 44 مليار دولار لتقليص الإنفاق العام جاءت على حساب الطابع الاجتماعي للدولة الفرنسية برفع الإعانات او تقليلها على بعض الفئات الاجتماعية الهشة، مع عدم إشراك أصحاب الثروات والمتعاملين الاقتصاديين والمستثمرين الذين استفادوا من سياسات ماكرون ضمن هذه السياسات التقشفية خوفا من هروب رؤوس الأموال، وهذا ما أدى بالمحصلة إلى رفض اجتماعي عُبر عنه بموجة احتجاجات ومظاهرات هدفها إغلاق أو شل فرنسا.

المآلات المأساوية:

أمام كل هذه الديناميكية الأزموية في فرنسا والتي زادت من حدتها تقديم سيباستيان لوكورنو لاستقالته، تتجلى أمامنا ملامح أزمة بنيوية تتعلق بالنظام أو الهيكل السياسي للجمهورية الخامسة، الذي غابت فيه الأغلبية السياسية والمرونة الاقتصادية، وطغت عليه الاعتبارات الشعبوية والأنانية الضيقة لمختلف التيارات السياسية التي أخذت تتخندق في الأزمة وتستثمر فيها عوض مواجهتها بحلول اقتصادية وتنازلات سياسية لإيجاد أرضيات توافق، وما هذا إلا مؤشر لصعود قوى سياسية متطرفة تفتقر إلى رؤية سياسية وإستراتيجية وطنية  شاملة، بل وتعوض ذلك بخلفيات فكرية سوسيوثقافية وعنصرية ذات طابع شعبوي في اغلب الأحيان، ولا يجد فيها الفرد الفرنسي حلا لمشاكله الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة داخليا، ولا تجد فيها الدولة الفرنسية خارجيا ظالتها السياسية ومكانتها الإستراتيجية على الصعيدين القاري والعالمي ، وقد ظهر ذلك جليا في  تراجع التأثير الفرنسي في السياسة الدولية بما فيها الدوائر الجيوسياسية المباشرة بداية من عدم قدرة فرنسا على التأثير في الأزمة الروسية الأوكرانية ، مرورا بفقدان الثقة والمظلة الأمنية الأمريكيتين وهو ما قد يضاعف الالتزامات الجيوسياسية الفرنسية تجاه أوروبا و يؤرق كاهل فرنسا، وصولا إلى تغييب النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية (التي كانت لعقود  خزانا للاقتصاد الفرنسي) .

تقودنا هذه المعطيات إلى استنتاج مفاده أن فرنسا قد تدخل مرحلة انحدار على كل المستويات إذا لم تتحمل الطبقة السياسية مسؤولياتها أمام الشعب الفرنسي، وتتخذ السلطة إجراءات راديكالية تحمل تضحيات كبيرة ومحفوفة بالمخاطر  قد تؤدي في نهاية المطاف إلى التحول إلى الجمهورية السادسة، خاصة في ظل الجمود السياسي والركود الاقتصادي والإنكار والرفض الشعبي لكل ما هو قائم ولكل الحلول المقترحة.

بقلم : الدكتور أنيس بوقيدر – أستاذ العلوم السياسية و العلاقات الدولية