الحكمة من التكليف الشرعي (4)
أ. خير الدين هني/ وإذا كان من فضائل رمضان ومكارمه، نزول الرحمات والبركات، من السماء على الصائمين من المسلمين في الأرض، لتغمرهم بالفيوضات الإلهية والألطاف الربانية والتعطّفات الملائكية، فيشملهم تعالى بعنايته ورحمته ولطفه ورضاه عنهم وحَدَبِهِ عليهم، ومباركة أعمالهم وتزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم من الشك والارتياب، والوساوس والرذائل والضغائن والرياء، فيحفظهم من الوقوع في الذنوب …

أ. خير الدين هني/
وإذا كان من فضائل رمضان ومكارمه، نزول الرحمات والبركات، من السماء على الصائمين من المسلمين في الأرض، لتغمرهم بالفيوضات الإلهية والألطاف الربانية والتعطّفات الملائكية، فيشملهم تعالى بعنايته ورحمته ولطفه ورضاه عنهم وحَدَبِهِ عليهم، ومباركة أعمالهم وتزكية نفوسهم وتطهير قلوبهم من الشك والارتياب، والوساوس والرذائل والضغائن والرياء، فيحفظهم من الوقوع في الذنوب والخطايا وكبائر الإثم، إلا بما ابتلى به سبحانه بعض عباده الصالحين المتقين، بابتلاء معنوي فيؤلمه ويحزنه ويتعسه، كأن يصاب بجفاء أو مقاطعة أو مضايقة من الأقارب أو الأصدقاء أو الجيران أو من عامة الناس، من غير سبب أو جناية أو جريرة أو سوء خلق ومعاملة، أو بابتلاء حسي أو مادي بموت حبيب أو بفقر مدقع، أو بضياع مال وفير أو متاع ثمين، أو بمرض مؤلم أو مزمن، يعكّر عليه صفو الحياة، وينغّص حلاوة طعمها، ويُكَدِّر عليه مشاعر الإحساس باللذة والمتعة في الوجود والكينونة، قال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ يُبتلى الرجل على حسن دينه، فإن كان في دينه صلبا أشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة».
فإن تجلّد المُبتلى وصبر وصابر، واحتسب أمره إلى الله تعالى، من غير جزع ولا شكاة أو أنين أو تأوّه أو نحيب أو تضجّر أو تأفّف مما ابتلي به، كما لو يتخيل البعض ممن تضعف هممهم وقوة إيمانهم، ولم يقدروا على مواجهة ضروب الابتلاء، فيبرق في وَهَلهم أنّ الباري سبحانه غاضب عليهم أو ساخط، أو منتقم منهم من دون الناس المعافين، والحال أن الحق سبحانه يمتحن العبد الصالح بالبلاء العظيم، ليختبر قوة إيمانه وصبره وثباته على الحق، وجزاء المؤمن المُبتلى الصابر هو نيل الدرجات العلا في جنات الفردوس، مع الصديقين والشهداء والصالحين، وكان ذلك جزاء عادلا موفورا.
وقد ينفد صبر الصائم، ولا يستطيع المداومة على الالتزام بالتكليف الشرعي من الطاعات والعبادات والذكر، بعد أن كان قد روّض نفسه وضبطها على إيقاع الصيام والقيام وحسن الاستقامة والسلوك طوال شهر رمضان، فما إن ينقضي هذا الشهر حتى تغالبه نفسه ويعود إلى اقتراف المعاصي والآثام، وهكذا تكون مدة الصبر على الطاعة والالتزام بالتكليف، قصيرة ولم تستمر مع الأيام المتعاقبة طوال أيام السنة، أما إذ كان المسلم مصابرا فسيروِّض نفسه على المداومة في قهر هواها وشهواتها وغرائزها الشريرة، فتكون مقاومته لشهواته ومجاهدته لغرائزه مستمرة وغير منقطعة، وبهذه الاستمرارية في مغالبة النفس لهواها، ومواصلة الالتزام بفروض الطاعة والعبادة، وترك التمادي و الإصرار على ارتكاب المعاصي، يستوفي المسلم أجره كاملا غير منقوص، وسينال سعادته برضا الله عنه، قال تعالى: «والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلاّ الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون»، (آل عمرا: 135).
ومعنى الإصرار على الذنوب، أن يثبت الظالم المعتدي على حدود الله، ويداوم على الوقوع في المعاصي بارتكاب الذنوب، وهذا من أكبر الكبائر عند الله، حتى وإن كانت الذنوب المرتكبة من الصغائر، لأن الإصرار على تراكم الصغائر بالفعل المخل لقواعد التكليف الشرعي من غير شعور بالذنب وتأنيب الضمير، هو التجاوز الفعلي لحدود التكليف الشرعي، الذي أمرنا الله تعالى بالتقيد بأحكامه تقييدا كاملا، وقد رأينا كيف ورد حكم التقيّد بأوامر التكليف الشرعي ونواهيه، في هذه الآية (ولم يصروا على ما فعلوا)، فكان عدم الإصرار الذي تضمنه النفي (لم)، هو الشرط الأساس في التقيد بالتكليف الشرعي، فمن لم يتقيّد به شملته عقوبة الله سبحانه، لأنه عصيان وتمرد وخروج عن القواعد التي وضعها الله للتوبة النصوح.
والمسلم الدؤوب على الطاعة والامتثال لأمر الله تعالى، في رمضان وغير رمضان يجد حلاوة الإيمان ولذة العبادة والطاعة يسريان في أحاسيسه ومشاعره، فيظل هادئ النفس مطمئن البال تغمره السكينة ويعلوه الوقار، ويكون سعيدا في حياته راضيا على نفسه وقدره، وهذه هي علامة القبول عند الباري سبحانه، قال تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»، (الرعد: 28) ، أي: يزول قلقها واضطرابها وضيقها وضجرها حين يداوم المسلم على ذكر ربه، والذكر هو الالتزام بأوامر التكليف واجتناب نواهيه، وهو في الاصطلاح يشمل قراءة القرآن والتسبيح والتهليل والتحميد والاستغفار جهراً وسراً.
أما الساهي أو الغافل عن ذكر الله، في رمضان أو في غيره فلا يشعر بالراحة والطمأنينة والسكينة والرضا عن النفس والأقدار، وهو -دائما-ساخط على نفسه وعلى القدر والمجتمع، تراه مضطرب الأحوال غضوبا قلقا متنرفزا، يثور لأتفه الأسباب ويتبذّأ في الكلام ويتفحّش فيه، من غير مراعاة لحرمة رمضان أو مسجد أو مدرسة أو بيت أو عالم أو أستاذ أو عائلة أو كبير أو صغير أو امرأة أو مجتمع، وهذه علامات لا تبشر بخير، لأنها لا ترفع صاحبها إلى منازل الصالحين الأتقياء، من الذين بشرهم الله تعالى بالرضا والفوز بنعيم الجنة.
ورمضان مناسبة جميلة للاستدراك، فمن كان يرجو محبة الله ورضاه، وقبول صيامه وقيامه وذكره وجميع أعماله، فعليه بمراجعة أحواله وأعماله غير الجميلة، ويبادر إلى التوبة والطاعة والعبادة، وسرعان ما يجد حلاوة الإيمان ولذة العبادة يسريان في أعماقه، وسيصبح مسلما تقيا نقيا مرضيا عنه في السماء والأرض، وحينها يتبدل حاله فيشعر بحلاوة الإيمان والراحة والسكينة والطمأنينة، وسوف يجعله ذلك يفيض بمشاعر الحب لله ورسول وسائر المسلمين والناس أجمعين.
وإذا وصل المسلم الصائم التائب الآيب، إلى هذه الدرجة من الرجوع إلى الله بتوبته وأوبته وندمه، فيكون قد حاز الكمال الروحي والقلبي في الإيمان بخالقه والتعلّق بحبه وهيامه به، وسيبلغ مراتب الأولياء الصالحين الذين تغمرهم-على الدوام- الفيوضات الإلهية، فتجعلهم صفوة الله المختارين في الحياة الدنيا، ومن الصالحين الفائزين المرضي عنهم في الحياة الآخرة، وهذه منزلة عليّة في الدنيا والآخرة، وليست عصيّة على المسلم القوي الصبور المصابر المقدام صاحب الهمّة العالية، فيمكن لأي مسلم جادٍّ في حياته، حازم في قراراته، عازم في مواقفه، صارم في أعماله، متثبّت غير متردّد في اختياراته، مقدام غير هيّاب عند المضي في تحدي الصعاب والعقبات، أن يتغلب على هواجسه وضعفه وتردده واستسلامه لعواطفه، ويبلغ القامات العليّة عند الله تعالى حين يصدق في نيته ويخلص في عمله.