العلامة المجاهد محمد يكن الغسيري الباتني
وأنت تتصفح سير الرجال والعلماء من بلاد الأوراس الأشم، ممن وصلوا درجة كبيرة من المعرفة والاجتهاد الديني، لابد أن يلفت انتباهك شخص العلامة الكبير، والمجاهد البطل، الشيخ محمد يكن الغسيري، رحمه الله تعالى وطيب ثراه. الميلاد والنشأة والتعليم: هو شيخنا العالم الجليل محمد بن أحمـد يكن المنصـوري الغسيري، إذ ينتمي فضيلة الشيخ محمد …

وأنت تتصفح سير الرجال والعلماء من بلاد الأوراس الأشم، ممن وصلوا درجة كبيرة من المعرفة والاجتهاد الديني، لابد أن يلفت انتباهك شخص العلامة الكبير، والمجاهد البطل، الشيخ محمد يكن الغسيري، رحمه الله تعالى وطيب ثراه.
الميلاد والنشأة والتعليم:
هو شيخنا العالم الجليل محمد بن أحمـد يكن المنصـوري الغسيري، إذ ينتمي فضيلة الشيخ محمد من لعرش بني منصور، وهذا العرش أحد أكبر عروش منطقة غسيرة، التي تتبع في نظامها الإداري دائرة تكوت أعالي جبال بولاية باتنة العظيمة برجالها وتاريخها المجيد.
ولد شيخنا الإمام نواحي سنة 1915م، وككل أبناء المنطقة، التحق بالكتاب صغيرا ليتعلم الكتابة والقراءة وحفظ كتاب الله العزيز، ففي سن السابعة من عمره التحق بالكتّاب لذلك، حيث حفظ ما شاء الله له أن يحفظ، وبقي فيها لغاية سنة 1927، وفي السنة ذاتها انتقل لمركز علمي له إشعاعه أيضا، وهو زاوية الشيـخ ابن الصادق بأولاد ميمـون الواقعة نواحي غسيرة بجبال الأوراس، أي قريبا من مسقط رأسه، فكان الفخر والتوفيق بأن أكمل حفظ كتاب الله تبارك وتعالى جـيدا سنة1931.
وفي سنة 1931ميلادي، عزم شيخنا العلامة محمد على السفر لطلب العلم والاستزادة منه، فحط رحاله في بسكرة ابتداء، ثم لم يلبث طويلا أن سمع بالشيخ المصلح الكبير العلامة عبد الحميد ابن باديس بولاية قسنطينة، فسافر له طالبا النهم في علوم الدين، فاستـقر الشيخ بها، وطال به المكوث هناك، حيث تعلم الفقه واللغة والنحو والصرف والبلاغة وكذا الخطابة، وكان مميزا بين أقرانه له شخصية قوية.
الشيخ محمد يكن وجهاد الكلمة:
في بداية 1940ميلادي اقتنع الشيخ بعمل الكشافة الإسلامية الجزائرية فقام بالانضمام لها بولاية قسنطينة، فكان في منصب مرشد لفـوج الإقبال سنوات، ثم التحق بالقيادة العامة بعد تم اختياره بعد استشهاد القائد البطل محمد بوراس، وتمت تسميته مرشدا عاما وعضوا بارزا في جناح شبيبة الكشافة الإسلامية الجزائرية، حيث خلف كثيرا من النصوص التي كتـبها لفائدة المنظمة، منها التقرير الديني والأخلاقي للكشاف سنة 1943، وكذلك لائحة المرشدين المقدمة للقيادة العامة فـي مخيم تلمسان سنة 1944.
من المواقف المفصلية في حياة الشيخ محمد، أنه بعد المجازر البشعة التي قام المستدمر الفرنسي في الثامن ماي 1945، تم اعتقال الشيخ، وبالضبط يوم 16 ماي 1945، وتم وضعه بالسجن المدني بقسنطينة، ثم تم نقله إلى سجن الحراش بالجزائر العاصمة ومنه إلى معتــقل جنان بـورزق بين بشار وعين الصفراء قبل أن ينقل إلى معتقل المشرية، وطيلة فترة الاعتقال تلك تعرض شيخنا الإمام لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل، وبقي على تلك الحال إلى غاية صدور العفو بحقه، لكـنه وضع رهن الإقامة الجبرية بـ فيـلا لارد، ولم يطلق سراحه إلا في السابع والعشرين مارس 1946.
رجع شيخنا لمهوى فؤاده قسنطينة، وبعد عودته تم تعيـينه كنائب في لجنة التعليم العليا التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وفي ذات السنة تقلد الشيخ عديد المسؤوليات الشريفة، فكان مفتشا عاما لجميع مدارس الجمعية على المستوى الوطني، وبقي كذلك إلى غاية سنة 1949، وهي السنة التي عيّن فيها منـدوبا خاصا لزيارة الطلبة الجزائريين وتفقد أحوالهم في تونس ومصر.
في سنة 1951 قاد وفدا هاما من الكشافة الإسلامية إلى فرنسا، ومنها انتقل إلى النمسا حيث حضر المؤتمر العالمي للكشاف، وما إن عاد إلى الجزائر حتى كلف بمهمة زيارة المسؤولين السياسيين عن حزب الاستقلال المغربي فــي بلادهــم فمزج الشيـخ بين العمل الإداري والتعليمي والتربوي مع النضال والعمل السياسي.
وفي سنة 1953 ترأس وفــد الكشافة الإسلامية الجزائرية الـذي كـان متوجها إلى مصر لحـضور إحيـاء الذكرى الأولى لثورة جويلية 1952، استجابة لدعوة مــن الكشافة المصرية، وهناك التقى بالقائد عبد الكريم الخطابي وتعرف عليه، وبعدها سافر إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج رفقة الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ الفضيل الورتلاني، وبعد انتهائه مـن مناسك الحج، زار سوريا ولبنان، حيث تعرف على رجال الفكر والثقافة وعلماء الدين.
الشيخ العلامة… ودوره في تدويل قضيته الأم، وجهاده من أجل تحرير بلاده:
رجع شيخنا إلى أرض الوطن ليحاول كتابة رحلته تلك في جريدة البصائر، لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان كذلك، فقد قام في مقالات عديدة، حوالي 19 مقالا بتتدوينها، وكانت تلك السلسلة بعنوان: «عدت مـن الشرق»، إذ يجد المتأمل والقارئ لتلك المقالات موهبة معبرة وذوقا بديعا حول أحوال مشاهداته في تلك الربوع من الوطن العربي التي زارها بدءا من تونس إلى لبنان مرورا بليبيا، مصر، السعـودية، العراق، الأردن وسوريا، حيث كان شيخنا معجبا غاية الإعجاب بتراث الأمة العربية وتاريخها وحضارتها وعلمائها ومخطوطاتها… لكنه في نفس الوقت وذات السياق كان ناقد لأحوالهم، حيث توجع لما شاهده من دمار خلقي وجهل خلّفه الاستعمار وحروبه على الأراضي العربية المسلمة، وضاق ذرعا من مــظاهر التخـلف والخــمول، والانـحراف لـدى بعض شبان وشابات الــدول العـربية، ولم يفــوت أي سلبية وقف عليها إلا ونبّه إليها وقدم النصيحة لتجاوزها.
لقد صال شيخنا وجال، وجالس العديد من أكبر علماء عصره مذكرا إياهم بقضية الجزائر، رافعا رايتها حتى قامت قيادة جبهة التحرير الوطني سنة 1956 بتكليفه رسميا بالسفر من القــاهرة إلى دمشــق، أيـن عيـن ممـثلا لها وعــمل بالشام مساعدا للأستاذ عبد الحميد مهري، فكان كله عزم وإصرار على شحــذ الهمــم وحشـد الدعـم والتـعريف بثـورة المليون شهيد.
وكان من جهوده الكبيرة أن أشــرف شخــصيا على الحصـص الإذاعية من دمـشق، والتي كانت تتـناول قـضية الجــزائر وحـربها ضد المستدمر الفرنسي، وبقي كذلك حتى الاستقلال.
العلامة الشيخ محمد يكن… السفير:
استقرت بفضل الله وتوفيقه وجهود المخلصين الغيورين على الوطن المفدى، فـقــرر الشيخ محمد العــودة لحـضن الـوطـن الغالي، الذي اشتاق له اشتياق الابن لوالدته، فما بقي في الجزائر طويلا، حتى تم استدعاؤه رسميا لخدمة بلاده مرة أخرى، فلم يكل ولم يمل، فقبل المهمة كعادته، إذ تم تعيينه من قبل حكومة الجزائر كأول سفـير لها بالمــملكة العــربية السعــودية سنة 1963 إلى غاية 1970، وفي سنة 1970 ثم تعيينه سفـيرا للجزائر بالكـويت وممـثلا لها باليمن الجنوبية حينما كانت دولة منفصلة عن اليمن، وكذا الإمارات العربية المتحدة.
وفاته رحمه الله تعالى:
شاءت قدرة المولى تعالى أن ينتقل شيخنا لواسع فضل الله، وبحبوحة رحمته ورضاه، سنة 1974م، وبالضبط في 24/07/1974م، حيث تم دفنه بمقبرة العالية بالجزائر العاصمة.
رحمه الله تعالى رحمة الأبرار.
جلال لمرد