العلامة و السفير محمد يكَّن المنصوري الغسيري

أحمد بن السائح الأستاذ العلامة محمد يكَّن المنصوري الغسيري من أعلام الجزائر المُتأَلِّقين في سماء النهضة والإصلاح ، والتربية والتعليم ، والوطنية والتحرر ، والدبلوماسية والعلاقات الدولية ؛ وهو بالإضافة إِلى كل ذلك من الرجالات الفذة والزعامات النادرة التي لا يجود الزمن بمثلها إلّا في مواقيت مُعيَّنة و (( … الأمور مرهونة بأوقاتها ـ كما …

أغسطس 9, 2025 - 22:15
 0
العلامة و السفير محمد يكَّن المنصوري الغسيري

أحمد بن السائح

الأستاذ العلامة محمد يكَّن المنصوري الغسيري من أعلام الجزائر المُتأَلِّقين في سماء النهضة والإصلاح ، والتربية والتعليم ، والوطنية والتحرر ، والدبلوماسية والعلاقات الدولية ؛ وهو بالإضافة إِلى كل ذلك من الرجالات الفذة والزعامات النادرة التي لا يجود الزمن بمثلها إلّا في مواقيت مُعيَّنة و (( … الأمور مرهونة بأوقاتها ـ كما يُقال ـ وتكون الأمة في أشدِّ الحاجة إلى هذا النوع من الرجال . )) المفطورين على البأس والشدة أثناء الضيم والكريهة ، وهذا الطراز من الزعماء والوطنيين لا يظهر إِلّا لحسم القضايا المصيرية التي تتعلق بالأمة والوحدة الوطنية والتوجهات العامة للشعب ، ومُترجَمُنا معالي السفير محمد الغسيري من ذلك الطراز من الإطارات الوطنية السامية التي استفاد الوطن من دورها وتجاربها النوعية الممتازة في ساعة العُسرة .

وقبل تعيينه كسفير للجمهورية الجزائرية ـ بعد الاستقلال ـ ، كان سعادة السفير محمد الغسيري رجلا مخلصًا مُساعدًا لشيخه رائد النهضة الفكرية والإصلاحية الأستاذ الإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس ، وكان أقرب تلامذته إِليه ، وكان إِلى جانبه في كل وقت وحين ، وكلفه الأستاذ الإمام بمهام ومسؤوليات عديدة فقام بها أحسن قيام ، واضطلع بقضايا تنظيمية تتعلق بأنشطة وأعمال علمية وإِعلامية في مسارات جمعية العلماء ،وقد أدَّاها على أكمل وجه ، وعلى الإجمال كان الأستاذ المُعلِّمُ الرائد محمد يكن الغسيري رجل تعليم وإِصلاح ، وإِدارة مناهج ، وتربية أجيال ، وهو بالإضافة إِلى كل ذلك رجل كفاح ونضال ، والملاحظ أن زمن الغسيري كان لافتًا في الأربعينيات ومطالع الخمسينيات من القرن الآفل ( قبل الثورة ) ، وقد كانت المسؤوليات تتجه نحو الغسيري تطلبه وتستنجد به دون سواه ، وكان بدوره لا يحرص على منصب أو يرغب في مسؤولية نتيجة لتواضعه الفطري غير المصطنع ، وابتعاده عن مباهج الدنيا وزخارفها التي عجزت عن قنصه واصطياده ، ومن هنا جاء قول الشاعر الجزائري في حقه :
خدمت العلم لَمْ تطمح لمــال ولَمْ ترضـخ لإغـراء مـثيـر
ولَمْ تُعط السياسة وهي حلم يراودهم سـوى وقت قصير
والواقع أن الشيخ الرئيس ابن باديس وجد في تلميذه محمد يكن الغسيري مناقب شتى يتميَّزُ بها عن غيره ، ومن تلك المناقب استقامته وإِخلاصه في القول والعمل ، وجديَّته في تنفيذ ما يُسنَدُ إِليه من مشاريع علمية وإِدارية ، ومن ثمة كان محل ثقة شيخه الأستاذ الإمام ابن باديس ، وظل الغسيري كتومًا لأسرار وخبايا الجمعية ، واشتهر بين زملائه ورجالات الجمعية بالأمانة على ما استُحْفِظَ عليه .
وفيما أُوكِلَ إليه من أعمال ومهام تربوية ، أظهر الغسيري براعة فائقة في الجمع بين تحضير الدرس والتنسيق والتنظيم عند أدائه وإِلقائه ، وكان يضطلع بكل ما تتطلبه العملية التعليمية في المجال التربوي من اطلاع وحرص على تأدية وتحقيق المهمة المنوطة به على أكمل وجه بوفاء والتزام ، ونال ثقة الشيخ ابن باديس الذي رضي كل الرضا عن هذا المستوى الرفيع ، بَلْهَ القدرة على التلقين السليم ، ومراعاة ضمان التلقِّي الناجح بوساطة الوسائل التربوية المتاحة في ذلك الزمن الذي كان فيه التعليم العربي الحر يفتقر إِلى وسائل الإيضاح وكتب البيداغوجيا والطرائق الفنية للتدريس النافع والمجدي ، فضلا عن غيبة الكثير من الضرورات التي يقوم عليها نظام التعليم ، كالتطبيقات العلمية والعملية في المجال التربوي ، وعلم النفس التربوي ، وغيرها من المناهج والقواعد العامة التي تتعلق بأساسيات التربية والتعليم ، وعلى الرغم من كل تلك النقائص كانت عزائم مشايخ ومدرِّسي التعليم العربي الحر أَقوى بأْسًا وأشدُّ تحدِّيًا من أجل تقديم تعليم نوعي وتكوين إِيجابي ونتائج باهرة .

موقف الغسيري للتمكين للفصحى والدفاع عنها :

في تلك الأوساط التعليمية المتعبة كان الرهان على جودة التعليم وإِنجاح عملية تعميمه ونشره ،وكان المعلمون الأحرار على أهبة الاستعداد للتضحية بكل ما يُطلبُ منهم ، وفي تلك الأثناء لَمْ يكن النضال مُقتَصِرًا على المُطالبة بالحقوق فقط ، بل كان النضال ـ أيضًا ـ بمعناه الحقيقي عبر الكلمة المناضلة ( الصحافة ) التي تُخاطب الوعي وتسعى إِلى إِيقاظ الفكر ـ المُعَطَّلِ ـ من سباته ونومته التي طالت ، وتحرير العقل من غفوته ، ومن حقنا المطالبة بتدريس لغتنا ونثور وننتفِضُ على منعها بقوانين جائرة ، ونعمل ـ بعد استعادتها ـ على إشاعتها وإِذاعتها وترسيخها‪ ‬في كل الأوساط التربوية بين الأساتذة والطلبة ، ونُنْفِقُ كل جهودنا لجعلها ميسورة سائدة في المجتمع الذي يعتزُّ بلغته وكل عناصر شخصيته الوطنية . وقد كان النضال الذي ذكرناه بإِيجاز ـ دون تفصيل ـ سائدًا ، ويتصدى بحزم لمواجهة المنع والحظر بشكليهما الـ : الشوفيتي المتطرف والعِدائي المُتَعصِّبِ صد استعمال العربية ، من منظور استعلائي متغطرس باسم القوانين والمراسيم الإدارية الجائرة في عهد الاحتلال الكولونيالي البائد ، ذكرنا ذلك لنصل إِلى مواقف وجهاد سعادة معالي السفير محمد يكَّن الغسيري وصحبه الذين كانوا في تلك الأيام المُظلمة من فرسان ذلك الصراع المرير للدفاع عن الفصحى التي كانت ولا تزال وستظل ( حرة وليست لها ضرة ) كما وصفها العلامة العبقري محمد البشير الإبراهيمي عليه سحائب الرحمة والرضوان ، وأبلى الشيخ الغسيري البلاء الحسن بنضاله الشريف في مواجهة سياسة القمع الكولونيالي الذي فرض اللغة الفرنسية بوساطة الهيمنة العسكرية وقوة القوانين المجحفة ، وكان الأستاذ الغسيري في حربه على إِدارة الاستفزاز يعمل من منطلق رسالي على جبهات ثلاث وهي :‬
1 ـ ما كان يكتبه في صحافة جمعية العلماء ، وخاصة جريدة ( البصائر ) ، وما كان يُحرره في مجلة ( الحياة ) التي كانت تعني بالنشاط الكشفي ، وما كتبه في جريدة ( المنار ) التي كتب فيها مقالًا واحدًا ، بعنوان : (( نهضة الأمم )) بالعدد : 45 ، وما بعث به إلى مجلة : (( حضارة الإسلام )) التي نشرت له ـ أيضًا ـ مقالا واحدًا بعنوان : (( الجزائر .. ماضيها وحاضرها الثوري البطولي )) .
2 ـ ما كان يُلقيه في نوادي الكشافة من توعية وتثقيف واستنهاض للهمم ، مُغتنمًا فرصة المُحاضرات الموسمية وغيرها من النشاطات المختلفة لتقديم الحلول والبدائل المُناسبة من أجل تحرير الفصحى من قيدها والتخفيف من محنتها .
3 ـ وما كان يُساهم به من برامج وخطط في أوساط النخبة المناضلة من أصدقائه وأصفيائه للتمكين للغة القرآن والحيلولة بينها وبين تلك الترسانة الشرسة من القوانين والموانع الإدارية الظالمة ، ورفع ذلك الضيم عنها .
كانت مسألة الدفاع عن الفصحى عند الغسيري قضية قائمة في ذهنه لا تُفارِقُ تفكيره ، تعيش معه ما يُبديه وما يُخفيه ، وهي عنده على رأس كل القضايا ، ولها المكانة الخاصة والمرموقة في سويداء قلبه . والمُتصفِّح لمجلة ( الحياة ) ـ لسان حال جمعية الكشافة الجزائرية الإسلامية ـ السلسلة الجديدة رقم : 1 جانفي 1951 مِ ؛ ص : 8 إِلى 12 ، نقرأ موقف الغسيري بقلمه مُتحدِّثًا عن مجد العربية الآفل وماضيها الحافل بعنوان : (( إِليك أيها المُرشد الكشاف )) ، جاء فيه : (( … كل ذلك جعل هذا الشاب يتبرم من الحياة ويتنكر لماضيه المجيد ، ويأتي البيوت من ظهورها ، ويجهل الدنيا بعد أن جهل الدين ثم لا يلبث أن يصطدم بصخرة الواقع ، فلا هو قادر على إِدراك المنزلة العليا التي ظفر بها الأمريكان والأوربيون ؛ لأنها لا تُدركُ إِلا بالعمل الجاد ، وهو كسلان ، ولأنها لا تُنال إلا بالتضحيات الكبرى وهو جبان ، ولا هو راض عن حياة الشرقيين المخلصين الذين وجدوا بلادهم محتلة ، وشؤونهم مختلة فطفقوا يؤسسون وينشئون ويقوضون ويجددون ، ويعلنون للعالم أجمع بأنهم خليقون بأن يبعثوا مجد أولئك الذين استبسلوا في كل ميدان من ميادين التمدين ونجحوا ، لقد درسوا اللغات الأجنبية وفهموا بها العلوم ، ولكنهم سخروها لخدمة لغة الأمومة فكتبوا بها مؤلفاتهم ، حتى أضحت المرجع الوحيد لمبادئ العلوم زمنًا طويلا ؛ ودانوا بالإسلام فزكَّى نفوسهم ، وجمَّل أخلاقهم وحطَّمَ أغلال الذُّلِّ أمامهم ، وحبَّبَ إِليهم النصيحة في سبيل المُثلِ العُليا للإنسانية جمعاء . )) ؛ ص : 9 .
ويُضيف لحقيقة كل ما ذكره : (( … وأن تكون يقظًا سمحًا حُرًّا خبيرًا بأدواء أمتك وبلادك ، عليمًا بمظان الأدوية الناجعة لها ، وإِنَّا لنُعِدُّ مؤسستك الكشفية من روافد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في نشر الثقافة الإسلامية في هذه الديار ، وحذار من أن تقع أسير الأوهام فتستسلم في ميدان الكفاح من أجل دينك ولغتك وبلادك . )) ؛ ص : 11 .
وفي عدد ختم التفسير من مجلة ( الشهاب ) ؛ الجزء الرابع ؛ المجلد الرابع عشر ؛ الصادر بتاريخ : ربيع الثاني وجمادى 1 ـ 1357 هِـ / جوان جوليت 1938 مِ ، يواصل الفتى اليافع محمد الغسيري ما يُكِنُّهُ للفصحى من وُدٍّ ومحبة وإِخلاص ، وتُعنون إِدارة ( الشهاب ) مقالته بِـ : ( كلمة التلميذ محمد المنصوري الغسيري ) من ص : 242 إِلى ص : 245 ، وتُقدم هيئة التحرير مقالته إِلى القراء بقولها : (( وهذا تلميذ آخر من الطبقة المباشرة للتعليم في الجامع الأخضر ومن شباب البعثات الجبلية المجاهدة في سبيل العلم والدين والعربية ، الدالة مخائلها على أنه سيكون لها شأن في خدمة الجزائر من ناحية دينها ولغتها ، وحيا الله الشباب العامل . )) . أ . هـ .
وبعد تقديم وجيز يقول التلميذ الواعد محمد المنصوري مُخاطبًا حضور حفل تكريم الأستاذ الإمام الرئيس عبد الحميد بن باديس : (( أعز الله بكم الإسلام ولغة الإسلام من بعد ما خالهما أقوام على وشك الزوال ، وأرجف أقوام بزوالهما بالفعل فجئتم اليوم تفنِّدون بصنيعكم هذا الحسبان وتدحضون هذا الظن الخاطئ وتقيمون الدليل الملموس على أبناء هذا الدين وهذه اللغة وأنكم أنصارهما تبذلون في سبيلهما كل قوة مادية أو معنوية وترفعون بهما شأن أمتكم العزيزة ، وتبتغون لها الفلاح والسعادة من طريقهما ، وترجعون بأخلاق هذا الشعب إِلى أخلاق القرآن حتى يَتَبَوَّأَ مكانه اللائق به بين الأمم . )) . أ .هـ ؛ ص :242 ؛ 243 .
ولم يكن الغسيري وحده في هذا الميدان الشائك ، بل كان ولا يزال ـ في ذلك الزمن الاستدماري البائس ـ صحبه والنخبة من زملائه تُواصل نضالها على هذا النهج ، وهذا صديقه وأحد أصفيائه الروحيين الأستاذ القائد محمود بوزوزو ( 1918 مِ ـ 2007 مِ ) المرشد العام للكشافة الإسلامية والأستاذ للغة العربية بمدرسة مليانة الأهلية ، وصاحب جريدة ( المنار ) ـ فيما بعد ـ وأحد ألمع إِطارات وقادة الحركة الكشفية الذي ناضل في سبيل القضية الوطنية ، وحاول بكل ما أُوتِي من طاقة فكرية وعلمية بذل شتى الجهود الممكنة من أجل إخراج محنة الجزائر من عنق الزجاجة ، وإِيصالها إِلى شاطئ التحرر وتحقيق سيادتها الوطنية ، وهو بالإضافة إِلى ذلك من نُصراء اللغة العربية في ذلك العهد المُظْلِمِ من عقد الأربعينيات من القرن الآفل ، مثله مثل صديقه محمد المنصوري الغسيري الذي عرضنا ـ قبل قليل ـ دفوعاته عن الفصحى ، وها هو صاحب ( المنار ) الشاب الناهض الأستاذ محمود بوزوزو يتصدى بدوره للمنازلة عن العربية التي أوقفت سلطة الاحتلال الظالمة العمل بها بموجب تعسفات قانون ( شاتونيي ) بتاريخ 8 مارس 1938 مِ ، وفي تلك الظروف البائسة يُواجه الأزمة القائمة ، ويُصْدِرُ ـ رغم الحظر ـ ( نشرة داخلية ) عن ” جامعة الكشافة الإسلامية الجزائرية ” التي كان مرشدها العام ، وكانت جامعة الكشافة الإسلامية مجبرة على نشر إِعلامها ونشاطاتها باللغة الفرنسية ، وسعى المرشد العام محمود بوزوزو إِلى تحقيق تلك ( النشرة الداخلية ) باللغة العربية ، لكسر المنع والحصار ، ورفع الضيم عن القارئين بالحرف العربي وتمكينهم من متابعة نشاط الحركة الكشفية ، وإِتاحة الكتابة لمن أراد المساهمة في المجال الكشفي أَوْ غير ذلك من الاهتمامات بقضايا الوطن ، وطُبِعَتْ النشرة المذكورة في ( المطبعة الجزائرية الإسلامية ) بتاريخ : يوم الجمعة : 23 شوال 1365 هِـ / 20 سبتامبر 1946 مِ ، وعدد صفحات ( النشرة ) التي جاءت في شكل مجلة بلغ 32 صفحة ، ومقاسات مسطرتها : 23.5 × 15.5 سنتمتر ، وساهم في هذا العدد الأول نخبة من رموز الكشافة وإِطاراتها ، نذكر منهم حسبما ورد في فهرس العدد :
سد ثلم وتحقيق حلم ‪ ‬ ‪ ‬ص :‪ ‬2 .‪ ‬ للأستاذ محمود بوزوزو .‬‬‬‬
الكشافة الإسلامية الجزائرية ص : 6 . للأستاذ محمود بوزوزو .
الكشافة والتربية الأخلاقية ‪ ‬ص : 10 . للأستاذ أحمد بوزيد قصيبة .‬
أيها الكشاف ( قصيدة ) ص : 13 . للشيخ قدور الحلوي .
المخيمات الصيفية ص : 16 . للأستاذ المنصوري الغسيري .
الكشاف في الجنوب ص : 25 . للأستاذ علي مرحوم .
النظافة في الإسلام ص : 29 . للأستاذ محمد الطاهر البكاري .
الجوالة الإسلامية ( نشيد ) ص : 31 . للأستاذ محمد الصالح رمضان .
وما يهمنا الآن هو : تسجيل نص من كلمة الأستاذ محمود بوزوزو الأولى بعنوان : ( سد ثلم وتحقيق حلم ) ، واطلاع القارئ على عاطفته العميقة تجاه الفصحى ، وما يُكِنُّ لها من حب وتقدير : (( أخي الكشاف .
(( لَمْ يكن فبل اليوم يُوَجَّهُ إِليك الخطاب باللسان العربي المبين ولَمْ تكن تقرأ فيما يَرِدُ عليك من الأوامر والإرشادات كلمة عربية ترقص حروفها الجميلة بين عينيك ، وتَرِنُّ موسيقاها العذبة في أذنيك ، وتهزُّ نبراتها الشذية أوتار قلبك .
(( ولعلك كنت تشعر من هذا النقص بألم غير هيِّنٍ وتعد ثلمًا مزريًا بجامعتنا التي لا يخالجك أدنى شك في حرصها على تسيير حركتها في دائرة يكون فيها دينك ولغتك ومقوماتك كلها محفوظة مصانة شأن الجمعيات الكشافية في العالم ، وحُقَ لك أن تتألم من هذا النقص لأنه أمر لا يُستهان به لما ينتج عنه من حرمان لك ولإخوانك . )) . ص : 2 .

النضال الإعلامي على أشده

وعلى الرغم من كل الموانع والقيود الإدارية المتغطرسة ، كان النضال الإعلامي على أشده ، وكانت المطالبة بالحقوق تتصاعد لدى شباب تلك الفترة المفصلية التي شهدها الواقع الجديد الذي أفرزته آثار ما بعد الحرب الكونية الثانية ، وخاصة بعد التجربة الأليمة للثامن ماي 1945 مِ .
كانت تطلعات الجيل الجديد لشباب ذلك العهد ـ بعد الثامن ماي ـ تُراهن على تحقيق المواجهة ، وتعمل على تأكيد مراهنته بوساطة الحسم العسكري ، انتقامًا لمختلف التضحيات التي قدمها آباؤه ، ولَمْ تكن جميعها مجدية ، بل كانت وبالًا عليه في نهاية المطاف ، وزادت من معاناته التي راحت تتعقد يومًا بعد آخر . ومن كل تلك النتائج التي وصل وانتهى إِليها أمر الحركة الوطنية بِفرْعَيْهَا الوطني والإصلاحي ، وكانت مآلاتها مفزعة ونهاياتها مجازر دامية وإِبادات لَمْ يشهدها التاريخ المعاصر على الإطلاق ، وفي غمرة ذلك الإحباط ، تحرَّكت النيات الطيِّبة وتوافق القائمون على الكفاح الوطني ، وانعقدت عزائمهم على مواصلة نهج التحرر ، وتجديد النضال بطرائق أخرى مع الإبقاء على المبادئ السابقة للحزب ، والثبات على روح وفلسفة النضالات القديمة وما فيها من محتوى ومطالبة بالحقوق ، فضلًا عن تحقيق الاستقلال التام والانفصال عن فرنسا بصراحة واضحة دون مواربة .
وتجدد النضال القديم بتسمية جديدة جاءت تحت عنوان : [[ حركة الانتصار للحريات الديمقراطية ـ ‪Le Mouvement pour le Triomphe des Libertés Démocratiques‬ ]] مع التمسك والإبقاء على المبادئ القديمة للنضال ، وما تقتضيه ثوابت المطالبة بالحقوق ، وخاصة مبدأ الاستقلال التام .‬
وانضم إلى نهج الكفاح الجديد ( حركة الانتصار للحريات الديمقراطية ـ ‪M . T . L . D‬ ) الكثير من رجالات الحركة الإصلاحية وغيرهم ، بعدما عرفوا الحقيقة ، ومن عرف الحقيقة انتمى ، وهذا من نتائج الوعي الصحيح ، والتغيير الذي آتى أُكله في الذاكرة الجماعية للشعب والأمة بعد مجازر الثامن ماي وآثارها المدمِّرة ، وما كان فيها من دم وألم ، وإبادات لَمْ يشهد مثلها تاريخ القرن العشرين .‬
عاش سعادة السفير محمد المنصوري الغسيري لدينه ووطنه الجزائر وشعبه الذي قدم كل التضحيات ، وهو الذي حَمَلَ القضية الجزائرية إِلى آفاق بعيدة وبلاد قصية .. جال أماكن وبلدان شتى ، وكتب عن هذا التجوال ، وسجله في رحلة نشرها في حينها ، عرض فيها أفكاره ، وخلاصة مواقفه وحقيقة نشاطه في الاتصال بالآخرين ، وأبان ـ في تلك الرحلة ـ عن مدى ما بذله فيها من جهده وصبره ، وما أظهره من سوانح فكره وغزير حبره .
مارس القائد الرائد محمد الغسيري التربية والتعليم ، وكان مُتفوِّقًا في التدريس مُتمَيِّزًا في المجال التربوي الذي حذقه ، وكانت فيه مهارة إِتقان وتخصص ، وكانت له فيه تجارب فاصلة فيها العزم والحسم ، والدقة التي يتوخاها كل مسؤول صادق في أدائه ، مؤتمن على ما أُسنِد إِليه ، وفي ميدان التعليم دائمًا تحمَّلَ مهمة كتابة التقارير البيداغوجية وإعداد المؤتمرات والتحضير لها ، ومراقبة المناهج والنظر فيها وفي مدى صلاحيتها ومدى بقائها وصواب جدواها ، وكل ما يتعلَّق بالتعليم آل تباعًا إِلى الأستاذ الخبير بالشأن التربوي محمد المنصوري الغسيري فكان المفتش المسؤول العام عن إِصلاح التعليم واللجنة العليا للتعليم .
كما عاش الغسيري قائدًا مُرابطًا في جامعة الكشافة الجزائرية الإسلامية للقيام بنهضة إِيجابية ، والعمل على تسليم المشعل إِلى الشباب والانتقال بمستقبل الجزائر من عهود التصفية وجرائم الإبادة إِلى عهود الإرادة وتحقيق السيادة .
كان عصر الغسيري عصر تغيير وتخطيط وانتقال من وضع مظْلِمٍ بائس إِلى وضع جديد مُستبشِر بالنصر غير يائس ، وفي تلك الأيام إِبان ثورة نوفمبر المباركة كانت جوانح الغسيري تهفو وتتطلَّعُ لصنع مستقبل الجزائر المستقلة المتحررة من سيطرة وهيمنة المجرمين وبقايا الكولون وأحفاد الخنازير من سُرَّاق الأوطان .‪ ‬ ‬

منزلة معالي السفير محمد يكن المنصوري الغسيري :

من نعم المولى على الغسيري الله قد حباه بأحسن المناقب وجُلِّ المواهب وأرسخ العزائم وأقواها . وتميَّزَ على أقرانه بثقافته الخاصة ، واطلاعه الواسع على قضايا العلم والسياسة ،‪ ‬ بَلْهَ الإحاطة الشاملة بكل ما يتصِلُ ببواعث النهضة وما يتعلق بها من إِرادة واستعداد ، وحوافز شخصية وملكات يُؤتيها الله من يشاء ، ولا ريب أن الكثير من العوامل الأخرى قد توفَّرت للغسيري بحكم اتصاله الدائم بشيخه الأستاذ الإمام ، وما يمتلكه ابن باديس من عبقرية ، ووسائل علمية وتربوية ومصادر ومراجع ، وتدفق إِعلامي متنوع يأتيه كل يوم بوساطة البريد من أغلب جهات العالم المتمدن ، وفي طوايا ذلك البريد مواضيع شتى وثقافة موسوعية يستعين بها على مشروعه التجديدي ونهضته الرائدة وتعليمه التغييري وإِصلاحاته المجدية .‬
وفي تعامله مع أستاذه وصفيه الروحي الشيخ الرئيس ابن باديس ، أظهر الأستاذ الغسيري براعة نوعية في أداء عمله الإداري مع شيخه ، ولاحظ سماحة الشيخ ذلك الجمع بين التنسيق والتنظيم ، ونال ثقة ابن باديس الذي رصي كل الرضا عن نتيجة هذا المستوى الرفيع والقدرة الفائقة على التبويب والترتيب ، وما يقتضيه العمل المتكامل في المجال التربوي والإداري من اطلاع وحرص على تأدية وتحقيق المهمة المنوطة به على أكمل وجه ، بوفاء والتزام .
ومن أهم ما شَغَلَ بال الغسيري دهرًا طويلا محنة الفصحى ، وما تعرضت له من ظلم واضطهاد ، وقوانين جائرة قضت بمنعها كتابة وتدريسًا وخطابةً ، وظلت مأساة الفصحى تُؤرِّقه ، وتُحيل وجدانه إِلى معاناة لا تهدأ إِلَّا لتتجدد ، ولن تزول أو تختفي إلَّا لتعود وتُراوح مكانها من نفسه ، وتُعَكِّرُ عليه صفو تفكيره ، وهي في النهاية شعور باق ، وحزن مستمر ، وشجن مقيم ، وعذابات متتالية جثمت على صدر الغسيري الذي كان من أكبر وأشد الغيارى على لغة الوحي ولسان كتابنا العزيز ، ولعله كان أشبه حَالًا بذلك الشاعر الذي كتب شعرًا جميلا بمناسبة تقييد ( الضاد ) وتجريمها ، ولا ريب أن الأستاذ الغسيري قد قرأ تلك القصيدة التي نُشِرت في حينها في ( البصائر ) سنة 1938 م عقب صدور منع لغة الضاد من الاستعمال والتداول ، وهي قصيدة تلميذ ابن باديس الشاعر الناثر أبو بكر مصطفى بن رحمون ، وجاءت قصيدة ابن رحمون بعنوان : (( وا رحمتاه للضاد وسط بلادها )) ، ومما جاء في القصيدة المذكورة التي تحولت فيها مناكرة المنكر إِلى دفاع فنِّي رقيق :
قُلْ لي أَفـي ذاك الصـــداح عــزائـي أَمْ فيـه كان تفـجـعي وعنــائـي ؟
وهل أنت تصدح في الخمائل والربى عن غبــطة أو عـن أسى ورثـاء ؟
ويضيــق بي رحب البسيــطة إِذْ أرى هذي البـلاد فـريســة الجشعــاء
وأرى مـدارسـهـا يُعــطلـهــا الــعــدى ومــكاتــب المحتــل في خـــيلاء
وأرى الصحــــافة في حــصــار دائـــم ورجــالهــا في مـحـنـة وعـنــاء
والضــاد تُمنـــع والسجــــون تفتَّحـــت يُزجـى إِليهـا مـــعشــر الزعمـــاء
وارحمتــا للــضاد وســط بــلادهـــــــــا وارحمتــا لحمــاتهـــــا السـجـنـاء

وخلاصة القول في الغسيري :
وكان الغسيري منذ شبابه الباكر مهمومًا بمأساة القضية الوطنية ، شهد له بذلك رؤساؤه وزملاؤه بالجرأة والاستعداد الدائم للتضحية بنفسه من أجل التحرير الشامل والنضال الكامل لتخليص الجزائر من أسار محنتها ، وإِذا كانت تلك القضايا من ذلك النوع الذي يتعلق بمصلحة الوطن ، فإِن موقف الغسيري لا يتأخر لتقديم ما عنده من حلول بالتوعية والتحسيس بحقيقة المستقبل السياسي وما تتطلبه أزمات التحرر من مواجهة دبلواسية ، أو تجريد اليراع للكتابة والدفاع .
وكان للسفير محمد المنصوري الغسيري صفحات مشهودة في الحياة السياسية ومجال العلاقات الدولية ، وكان له تفهم عميق للأعراف والأصول الدبلوماسية التي رعاها بحكمته واقتداره حق رعايتها ، وجعلها بكل ما فيها من تعارض واختلاف وعدم تجانس ومعاكسة ، تتلاقى وتتقاطع وتنسجم ، وسعى بطرائقه الخاصة إِلى التقريب بين وجهات النظر المُتنافرة ، وخصها من وقته وفكره على حساب راحته وشؤونه الذاتية ، وأفلحت جهوده المُضنية في نهاية المطاف بالنتائج المثمرة والتوفيقات الإيجابية ، ومن ثمة نال الاحترام والتقدير ، وجاءته الاعترافات تترى تنويهًا بدوره ، وإِعجابًا بمنهاج عمله الذي اختاره لنفسه فكان كما أراده أن يكون ، واعترف له المجتمع الدولي والأوساط الدبلوماسية بدوره المشهود وإِنجازاته المثلى وخدماته الجلى .
كان الغسيري قبل ثلاث وستين سنة ( 1962 مِ ـ 2025 مِ ) من رجالات الدولة الجزائرية الذين آلت إِليهم مسؤولية تمثيل الجزائر في المحافل الدولية بوساطة السفارة ، والاضطلاع بالجهد الدبلوماسي لدى الدول الأخرى ، وكانت له مقدرة فنية بالغة في الارتقاء بالعلاقات الدولية ، وحسن تمثيلها عند الدولة التي عُيِّنَ سفيرًا لديها .

الشهادة الأولى للأستاذ الدكتور مسعود بن موسى فلوسي :

قال الصديق البروفيسور مسعود فلوسي قي الخطبة الثانية لصلاة الجمعة ـ يوم مات الشيخ عمر دردور ـ (( … لولا ثلاثة رجال وهم : الشيخ عمر دردور والشيخ محمد يكن المنصوري الغسيري والشيخ الأمير صالحي لظل الأوراس يتخبَّطُ في جهله إلى يوم الناس هذا . )) . أ . هـ .
الشهادة الثانية للأمير محمد بن عبد العزيز :
في لقاء رسمي بالكويت التقى الأمير محمد بن عبد العزيز بسعادة معالي السفير محمد الغسيري ، وقال الأمير محمد مُشيرًا إِلى الغسيري ” ان هذا كان سفيرًا للجزائر في السعودية وكان يأمُرُ ونحن نُنَفِّذُ . ” .
ونختم هذه الكلمة بالأبيات التالية التي قالها الشاعر الراحل محمد الأخضر السائحي” الكبير” عليه سحائب الرحمة والرضوان ، في حفل الذكرى العاشرة لوفاة الشيخ محمد الغسيري ، وأشرف عليها زميل الفقيد سماحة الوزير عبد الرحمن شيبان رحمه الله يوم : الاثنين 30 جويلية 1984 مِ بقاعة الموقار :
تمرُّ بك السنون وأنـت حي لأنك في ضمائرنا ( الغسيري )
طباعك في بساطتها نسيـم وخلقـك في اللطـافــة كالـعبيــر
وكنت مدى الحياة أخا وفاء بِـلا مَــنٍّ وذا قــلــب كــبــــيــر
خدمت العلم لَمْ تطمح لمـال ولَمْ تــرضــخ لإغــراء مــثيــر
ولَمْ تُعْطَ السياسة وهي حلمٌ يُــراودهــم ســوى وقـت قـصير
فنم في الخلد جذلانًا قريرًا فــشـعبـك بات ذا طـرف قـريـر