القَوافِلُ! القَوافِلُ!
أ.د: عبد الحليم قابة رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرييـن/ شهد الأسبوع الذي مضى أحداثا جساما، أبرزها إرهاصات كبرى، تنذر بحرب عالمية ثالثة، مهّد لها الطغيان الصهيوني الذي تجاوز كل الحدود في فلسطين عامة، وفي القدس وغزة خاصة، وأنذر بها القتال بين روسيا وأكرانيا، وأكَّدها الصراع الذي ثار بين الهند وباكستان، وما تلاها من الحرب بين …

أ.د: عبد الحليم قابة
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرييـن/
شهد الأسبوع الذي مضى أحداثا جساما، أبرزها إرهاصات كبرى، تنذر بحرب عالمية ثالثة، مهّد لها الطغيان الصهيوني الذي تجاوز كل الحدود في فلسطين عامة، وفي القدس وغزة خاصة، وأنذر بها القتال بين روسيا وأكرانيا، وأكَّدها الصراع الذي ثار بين الهند وباكستان، وما تلاها من الحرب بين إيران والكيان الصهيوني الغاصب، وقبلها التجاذبات بين الصين واليابان، وبين الكوريتين، وقبل ذلك وبعده مناوشات وتهديدات واستعدادات مخيفة، وتحركات مريبة في شمال قارتنا السوداء، وغير ذلك مما يفسّره كثيرون بتضارب المصالح المادية والسلطوية بين الكبار والأقوياء، والطمع في الهيمنة على المسالمين والضعفاء، ونحو ذلك من دوافع الظلم والاستعلاء، مما يعرفه العوام والعلماء، وعجز عن علاجه الحكماء، فضلا عن غيرهم من الحمقى والأغبياء.
ومن هذه الأحداث المهمة هذا الأسبوع مما يتعلق بقضيتنا المركزية وموقف الجزائر –حكومة وشعبا – منها، قافلةُ الصمود التي توجهت من الجزائر وبمبادرة من إخواننا في تونس، ومرورا بليبيا، على أمل أن تدخل مصر الكنانة، لتصل إلى معبر رفح؛ محاوِلة كسر الحصار المفروض على إخواننا في غزة منذ سنين عديدة بلغت عقودا من الزمن، نخشى أن تستمر حتى تبلغ ربع قرن ، والعياذ بالله، ولعلها بذلك تحقق هذا المقصد النبيل، وتخفف عن إخواننا شيئا من أذى الجوع والعطش والمرض، وغير ذلك من آثار هذا الحصار الظالم الذي طال أمده، بسبب الطغيان والخذلان وتخلِّي الجيران والخِلَّان. توجهت القافلة من الجزائر لتلتحق بإخواننا في تونس الذين بادروا إلى هذه المبادرة، واحتفوا أيَّما احتفاء بإخوانهم وضيّفوهم وآزروهم وشجّعوهم وشاركوهم، ثم واصلوا مسيرتهم إلى ليبيا الشقيقة فالتحق بهم إخوانهم من هناك ، وأكرَموا – هم بدورهم – القافلة أيَّما إكرام، ومكثوا أياما بلياليها في أراضي ليبيا الشاسعة متجهين نحو حدود مصر الكنانة ، لكن قدر الله وما شاء فعل، كان بانتظارهم زبانيةُ حفتر المجرم المتصهين، فمنعوهم من الاستمرار في مسيرتهم المباركة، فاضطروا إلى العودة لكيلا يتفنن هؤلاء المجرمون في إيذائهم، وقد هددوهم وحذّروهم. وهذا الذي حصل معلوم عند من تتبع مسار القافلة، وكان لديه اهتمام بمثل هذه المبادرات الهادفة للتخفيف على إخواننا الذين عظم عليهم البلاء وطال عليهم أمده، ولكن الذي نريد أن نلفت إليه انتباه القراء الأفاضل، ونقف معهم لدراسته هو ما يلي:
أولا: جزى الله خيرا من خطط لهذه المبادرة، ومن رتب لها، ومن قادها، ومن شارك فيها، ومن دعمها وأيدها، ومن باركها ودعا لأصحابها، ومن سمح بها وأذن لأصحابها، ومن رضي مسلكها، ومن لم يفعل شيئا من ذلك لكنه صَرَف أذاه عنها. كل ذلك؛ نوع من أنواع الجهاد والعمل الصالح الذي تُغني فيه النية الصالحة والاجتهاد في صواب العمل، ليكون طاعة من أعظم الطاعات، وقربة من أحسن القربات. وربك لا يُضيع أجر من أحسن عملا.
ثانيا: كان من حسنات هذه القوافلُ القوافل (قوافل البرية والجوية والتي قفلت ورجعت) أنها تعبير عملي بالمتاح والمستطاع عن استنكار الأمة لهذا الحصار وما صاحبه من صنوف الظلم والطغيان والإبادة؛ وهم بذلك يحققون غايتين كبيرتين، تطمح نفس كل مسلم إلى تحقيقهما: – الأولى في الدنيا؛ وهي إقامة الحجة على القادرين والمتنفذين، وإيصال الرسالة إلى العالمين، وتطمين إخواننا المستضعفين، والربط على قلوب المومنين، وأداء واجب النصرة ولو بالحد الأدنى المقدور عليه لنجدة المظلومين. – والثانية في الآخرة؛ وهي تبرئة الذمة، والنجاة عند الله، والفوز بالأجر والرضى، بأداء واجب نصرة إخواننا بالمستطاع، وبإدخال السرور على قلوبهم، وبعدم إسلامهم للعدو الطاغي، فالمسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ولا يحقره ولا يتخلى عن نصرته وقضاء حاجاته.
ثالثا: ما حصل من تيسير مسار هذه القافلة من طرف بعض القادة في الجزائر وتونس وليبيا، وما حصل من اعتراض لها ومنع تقدمها، وما حصل – أيضا – من احتفاء بأصحابها في محطات كثيرة من مسارها، وفي الوقت نفسه، ما حصل من إيذاء واعتقال لبعض من شارك فيها، ولبعض من وصل مصر برا وجوا من القوافل والأفراد الآخرين من الشرق والغرب، ما حصل دليل واضح أن في التاريخ قائمتين، بيضاء وسوداء، وأن كل واحد سيسجل في القائمة التي تتناسب مع أعماله ونيّاته ومواقفه. وأنه – دون ريب – سيتصدر القائمة البيضاء المجاهدون المخلصون، والمؤذوْن الصابرون، والقادةُ العادلون المقسطون، الذين نفعوا عباد الله، وخففوا من آلامهم، وأدخلوا الفرحة إلى قلوبهم. وأنه – دون ريب أيضا – سيتصدر القائمة السوداء الخونةُ والمجرمون والطغاة المستبدّون الظالمون، ومن آذوا عباد الله، وتعدَّوْا حدود الله.
رابعا: لا شك أن من أهم ما أثلج صدور المهتمين بالأمة ونهضتها ما رأوه في هذه القافلة من تنوع في الانتماءات والتوجهات والولاءات والمدارس، بل حتى الطوائف والأديان (الإسلام وغيره من الأديان الباطلة) وأن قضايا الأمة وخصوصا قضيتها المركزية يُمكن أن تكون جامعة للجهود وللفرقاء على كلمة سواء، وأن الأزمات توحد الأمة وتنسيها الخلافات ، وما على الدعاة الحكماء إلا استغلال مثل هذه الظروف والمناسبات – بعد واجب التضامن والتعاون – لدعوة الناس إلى الكلمة السواء التي قال عنها ربُّنا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران64] وهذا انسجاما مع الهدف من خلق الله للناس، وما فرضه الله على أمة الإسلام التي هي – بذلك – من خيرة الناس. هذه بعض ما توحي به القافلة القافلة، وما ينبغي أن يقف معه المتابع المعتبِر والمستبصِر، وما ينبغي أن تُصرف له اهتمامات الناس، كما قال لهم ربُّ الناس: «لقد كان في قصصهم عبرة ….» وكما قال – أيضا – «فاعتبروا ياأولي الأبصار»، جعلنا الله جميعا ممن يستمعون القول أو يقرأون الكلام فيتبعون أحسنه ويعملون بأفضله، والله الموفق وهو يهدي السبيل.