بين الأسباب والنتائج!
أ.د: عبد الحليم قابة رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرييـن/ بنى الله هذا الكون على سنن وقوانين لا تتخلف، وقرر في كتابه العظيم بأننا لن نجد لسنة الله تبديلا، ولن نجد لسنة الله تحويلا. وهذه السنن منها ما يتعلق بالكون في جوانبه المادية المحسوسة والتي يخضع لها نظام الكون ونواميسه، ومنها ما يتعلق بالجوانب الاجتماعية التي …

أ.د: عبد الحليم قابة
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرييـن/
بنى الله هذا الكون على سنن وقوانين لا تتخلف، وقرر في كتابه العظيم بأننا لن نجد لسنة الله تبديلا، ولن نجد لسنة الله تحويلا. وهذه السنن منها ما يتعلق بالكون في جوانبه المادية المحسوسة والتي يخضع لها نظام الكون ونواميسه، ومنها ما يتعلق بالجوانب الاجتماعية التي يخضع لها سلوك الإنسان في المجتمع، ومنها ما يتعلق بالجوانب التاريخية التي تحكم مجريات التاريخ، ومنها ما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والإدارية وما يتعلق بغيرها من جوانب الحياة التي خلقها الله كما أراد، وللغاية التي أراد.
وما على البشرية إلا بذل الوسع لاستكشاف هذه السنن، وحسن الفهم لها، وجميل التأقلم معها، ورشد الانسجام معها، ثم سلامة التوظيف لها في تحقيق المقاصد من الخلق، وإرضاء الخالق، وإسعاد البشرية في الباقية، وفي هذه الدار الفانية.
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ}[آل عمران: 137]
وأظن أننا – باستحضار ما يحصل هذه الأيام في العالم من صراع بين الحق والباطل – ومن ظلم واستكبار، ومن تداعي الأمم نستذكر من هذه السنن ما يلي:
– قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}[البقرة: 251]
الذي قرر سنة التدافع التي حصر الله أمر صلاح الأرض – ومَن فيها – بها، وأن هذه السنة تقتضي الأخذ بأسباب القوة المطلوبة كلها، والمأمور بها في إطلاق قوله تعالى: «وأعدوا لهم ……» وذلك ليرتدع العدو ويرهب جانبنا فلا يفكر في الاعتداء علينا، وإن ركب رأسه واعتدى على شبر من أرضنا، أو على نسمة من أعراضنا، أو على شيء من حقوقنا، فإننا بقوتنا وإعدادنا – بعد تأييد الله لنا – ننتصر عليه، ونرده مدحورا مخذولا بإذن ربنا.
– ونستذكر- أيضا – قوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ …..}
الذي يقرر سنة (القوة في الاجتماع، والضعف في الافتراق) التي نرى تأويلها بأعيننا واقعا بين الأمة بدولها وكياناتها وأفرادها، وخصوصا في هذه الأيام التي تخلى فيها القريب والبعيد عن إخواننا في غزة وفلسطين وافترقت الأمة – بكيد الكائدين – إلى فرق شتى في أمر الأصل فيه أن يجمع الأمة ولا يفرقها، والأصل فيه أن يكون عامل وحدة بين أبنائها، ولكن للأسف إذا لان جانب أحد حكامنا بتأييد عمل كقافلة الصمود والسماح لها بالتحرك الحر لتحقيق مقاصدها في كسر الحصار على إخواننا، ترى غيره يقف حجر عثرة أمامها، ويوقفها عن تحقيق مقاصدها، بل يتعدى ذلك إلى إلحاق الأذى بأفرادها، ويخدم – بذلك – الصهاينة المعتدين بخسة ونذالة، وتفنن في الخيانة والسفالة.
وللأسف أيضا إذا وقفت بعض الدول – مشكورة – من التطبيع مع الصهاينة، موقف الامتناع والإنكار، تقف بعض الدول الأخرى موقف الذلة والانبطاح، وتفتح بلدانها لسفاراتهم وسوّاحهم، بل لغزوهم واستيلائهم على مفاصل الحكم والتأثير في بلادهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ونستذكر – أيضا – قوله تعالى: « وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا» الذي يقرر سنة هلاك الظالمين ونزول النقمة بهم لا محالة، وهي سنة متكررة في الأمم ؛ لتكرر أسبابها، والتاريخ خير شاهد على ذلك، والواقع يوقع على ذلك، والمستقبل سيؤكد ذلك – إن شاء الله – وأملنا – بإذن الله – أن نشهد شيئا من ذلك يحل بأعداء البشرية، وزعماء الطغيان في عصرنا. فتثلج صدورنا بذلك.
ونستذكر أيضا قوله تعالى : {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} الذي يقرر سنة التداول بين الأمم، وبين الأفراد، وبين الأوضاع؛ لكيلا يطغى الإنسان ويألف النعمة فيغفل عن شكرها وعن أداء حق الله فيها، ولكيلا يصاب الإنسان باليأس من طول زمن الطغيان والظلم والاستبداد، فالنصر آت لا محالة، وإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا، كما يقرر القرآن في قاعده الخالدة.
ونستذكر – أيضا – قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }[الأنبياء:105] الذي يقرر سنة أن العاقبة للمتقين، فلا تذهب أنفسنا حسرات على ما يصيبنا من أذى، وما نفقد من أحباب وأولياء، وما يحل بنا من استضعاف وبلوى؛ لأننا نوقن أن العاقبة للتقوى، وأن من أسباب رفعة الدرجات كثرة البلاء، وأن الظلام مهما طال، فلا بد من مجيئ الضياء.
نقرر هذه السنن الثابتة لننسجم معها، ولا نخالف أمر ربنا، ولا نعترض على سنن الله الغالبة التي لا تحابي أحدا، نفعل ذلك من أجل ذلك، مستذكرين سنة التغيير «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» التي توقظ نائمينا، وتنبه غافلنا؛ لأداء واجباتنا الشرعية والحضارية للنهضة بأمتنا، وللخلاص من هيمنة عدونا، ولتحقيق مقاصد ديننا، وإعادة عزتنا وأمجاد تاريخنا.
وبعد، فهذه وقفات مختصرة مع سنن الله في خلقه، نحن بأمس الحاجة لاستذكارها في هذه الظروف التي يشتد فيها الظلم على أمتنا، ويتعامل فيها الطغيان بشكل غير مسبوق، لكيلا تتجاوز بنا العواطف وردود الأفعال حدود الشرع، وضوابط المعقول، وما يستدعي واقعنا الأليم من رشد العقلاء، وحكمة الحكماء، وفتاوى العلماء.