مشكلة الأقليات في العالم العربي

أ. عبد العزيز كحيل/ تتكون معظم دول العالم من أكثرية عرقية أو دينية أو لغوية ومعها أقلية بانتماء عرقي أو ديني او لغوي مختلف، والاحتكام إلى موازين العدل واحترام التنوع هو أفضل طريق للعيش المشترك بعيدا عن التوتر والخصام والصدام، وقد أعطى الإسلام نموذجا عمليا لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الأكثرية والأقلية وذلك …

يوليو 28, 2025 - 19:10
 0
مشكلة الأقليات في العالم العربي

أ. عبد العزيز كحيل/

تتكون معظم دول العالم من أكثرية عرقية أو دينية أو لغوية ومعها أقلية بانتماء عرقي أو ديني او لغوي مختلف، والاحتكام إلى موازين العدل واحترام التنوع هو أفضل طريق للعيش المشترك بعيدا عن التوتر والخصام والصدام، وقد أعطى الإسلام نموذجا عمليا لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الأكثرية والأقلية وذلك منذ قيام دولة الإسلام في المدينة المنورة، بل نشير قبلها إلى لطائف ربانية كأنها إرهاصات لذلك الوضع، فمكة المكرمة – مهد الرسالة ومنطلق الدعوة – كلها عربية قحة وجميع من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم عرب، ومع ذلك شاء الله أن يكون فيهم نوع من الأقليات»، فسلمان فارسي كممثل عن الشرق، وصهيب رومي أي من الغرب أو ما يسمى بعد ذلك أروبا، وبلال من إفريقيا في الجنوب، ورغم أنهم كانوا أفرادا فقط إلا أن الإسلام جل منهم نموذجا حيا لانصهار الأجناس والأعراق واللغات في مدنيته ودولته، وكان لهم حظوة لافتة للنظر وهم جسم غريب عن مكة المعروفة بتشددها في الانتماء القبلي، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم «سلمان منا أهل البيت»، ويجعل من بلال مؤذنه الأول – وهي وظيفة لها رمزية دينية واجتماعية كبيرة تشرئب لها الأعناق جعلت عمر يقول «بلال سيدنا وأعتقه سيدنا» أي أبو بكر رضي الله عنهم جميعا، أما صهيب فنزل فيه قول الله تعالى «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله» وهي شهادة لا تدانيها شهادة…فكان هؤلاء الأفراد ورفع الرسول لمقامهم إشارة إلى ما سيكون عليه الوضع حين ينتشر الإسلام وتدخله الأجناس والأعراق واللغات المختلفة حيث لن تكون أقليات بالمفهوم الغربي الحالي بل ستكون جزءا أصيلا معززا مكرما من النسيج الاجتماعي الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا ما سيحدث بالفعل ومنذ خطوات الدولة الوليدة الأولى، ذلك أن المدينة المنورة كانت تمثل أغلبية عربية وفي أطرافها أقلية يهودية كبيرة، وكان من الأعمال الأولى التي بادر بها النبي صلى الله عليه وسلم إصدار الوثيقة الشهيرة التي تضبط العلاقة بين المكوّن المسلم والمكوّن اليهودي باعتباره طرفا في المواطنة كامل الحقوق المدنية والسياسية، ولم يسجل التاريخ أن عدوانا معنويا أو حسيا وقع على الجالية اليهودية طيلة الفترة ما قبل غزوة الأحزاب، وقد تحمل الصف الإسلامي استفزازات اليهود المتنوعة وتحلى بضبط النفس إلى أبعد حد كأسلوب إيماني وحضاري مع طرف لا يعدونه مخالفا بل هو عندهم مواطن مثلهم، حتى جاوز بنو قريظة المدى وانضموا إلى العدو الخارجي في هجومه على دولة الإسلام الناشئة وارتكبوا جريمة الخيانة العظمى كما هي مقررة في جميع القوانين السماوية والوضعية فكان العقاب النبوي لهم رادعا وعادلا، ثم توالت الاحتكاكات المتشنجة بين الطرفين وانتهت بإجلاء يهود بني قينقاع من المدينة نهائيا اتقاء لشرهم ودرءا لمفاسدهم.
ومع امتداد الإسلام في الأرض تعايش المسلمون مع أقليات شتى أبرزها النصارى الذين اختاروا البقاء على دينهم وما زالوا موجودين بدينهم ومذاهبهم وأماكن عبادتهم في المشرق العربي، ولم يصبهم ما أصاب نظراءهم في أروبا ولا أمريكا حيث أبادت الأقلية الغازية – إنجليزية، إيرلندية، إسبانية – الأغلبية صاحبة الأرض واستأصلت شأفتها في شمال أمريكا ووسطها وجنوبها وأرغمتها على اعتناق المسيحية دين السلام !!! وهو ما تكرر في الأندلس التي كانت ملاذا آمنا لجميع الناس مهما كانت أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم تحت الخلافة الإسلامية فلما استولى عليها الأسبان – باسم المسيح – ارتكبوا مجازر مروعة وأرغموا المسلمين على ترك دينهم، ومن الغرائب أن الأذى طال حتى اليهود هناك فوجدوا الأمن الامان عند المسلمين في المغرب العربي.
بدأت المأساة بما تضمنته اتفاقيات سيكس – بيكو المشؤومة التي قسمت معظم البلاد الإسلامية – والعربية تحديدا – على أساس استعماري خبيث وظفت فيه الأقليات بطريقة تجعلها خنجرا مسموما في نسيج البلاد المقسمة ومصدر فتن لا تنطفئ إلا لتشتعل من جديد حتى لا تنعم تلك البلاد بأي استقرار وازدهار من جهة، ولتبقى ورقة ضغط في يد القوى الكبرى تتحكم من خلالها في سياسيات تلك الدول من الجهة الأخرى، وقد ركزت على الأكراد فوزعتهم بين عدة دول وجعلت منهم أقليات تسبب المشاكل أو تُخلق المشاكل وتنسب إليها، وفعلت نفس الشيء مع الدروز والنصيريين والمسيحيين، وعملت على خلق أقليات إثنية ودينية في بلاد أخرى كالجزائر وتونس تنفخ فيها باسم العرق واللغة والتنصير لنفس الأهداف الهدامة فاستطاعت بذلك خلق مناخ مفخخ دائم التقلب تؤججه القوميات الضيقة والنعرات المختلفة لضمان تفكيك الأمة، في المقابل نلاحظ كيف يغض الغرب الطرف عما تعيشه الأقليات المسلمة من تضييق واضطهاد في البوسنة والهند والصين وبرمانيا وغيرها.
إنه لا حل لهذه المعضلة إلا بإحياء الحكم الإسلامي بقيمه ومبادئه وأخلاقه ليمتثل الجميع لتلك الأساس الراسخة التي تضمن الوحدة – في ظل التنوع الإيجابي – والاستقرار والازدهار: إنما المؤمنون إخوة – وأن هذه أمتكم أمة واحدة – إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا – لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.