التجريد في حياة الإنسان وضرورته الوجودية

د. عبد الرحمن عمارة/ قد يستغرب البعض إزاء العنوان، الذي صدّرنا به مقالتنا هذه، فيتساءلون عما نعنيه به، وما نرمي إليه من ورائه، وفيما يلي بسط لتصورنا حوله. اعلم أيها الإنسان، أنك في ذاتك شكل من أشكال التجريد؛ ألا ترى أنك كنت في بادئ الأمر ترابا وطِينا ثم صلصالا من حَمَأٍ مَسْنُون ثم نُفخت فيك …

سبتمبر 17, 2025 - 18:16
 0
التجريد في حياة الإنسان وضرورته الوجودية

د. عبد الرحمن عمارة/

قد يستغرب البعض إزاء العنوان، الذي صدّرنا به مقالتنا هذه، فيتساءلون عما نعنيه به، وما نرمي إليه من ورائه، وفيما يلي بسط لتصورنا حوله.
اعلم أيها الإنسان، أنك في ذاتك شكل من أشكال التجريد؛ ألا ترى أنك كنت في بادئ الأمر ترابا وطِينا ثم صلصالا من حَمَأٍ مَسْنُون ثم نُفخت فيك الروح، وقد كنت من قبلُ نسمة من النسمات، في عالم الذر، ممن أشهدهم الله على أنفسهم بربوبيته، وقد انتقلتَ بحالك هذا من مُطلق التجريد (عالم الذر) وأخذت أشكالا شتى أخرجتك من صورة إلى صورة؛ فكونُك من تراب قد تم تجريدك من الأرض، وكونك من الطين فقد تم تجريدك من التراب، وهكذا إلى أن صرت إلى ما صرت إليه.
ثم لتعلمْ، أيها الإنسان، مُذْ بدأتَ تعقل عن الله ثم عَن مخلوقاته، أنك لم تنل حظَّك من الفهم والإفهام إلا بمقدار حظك من آلة التجريد؛ فالمعارف والعلوم والأذواق شتى مختلفة، وفروعُها متنوعة، ولن يكون لك منها حظ لدى العلماء والعارفين، إلا إن بلغتَ مقام التجريد، الذي يمكنّك من أخذ العلم والصنعة في أبسط شكلٍ دون أن يخفى عنك جوهرها أو يغيب عنك لُبُّها؛ وإذا أردتَ أن تقتبس مني بعض أسرار ما أقول، فاقرأ عني هذا التساؤل، واقتبس منه ما استطعت إليه سبيلا:
لماذا كلما زادت معرفة الإنسان قلَّ كلامه، وتوسَّلت بالكلمات والحروف أفهامُه؟
ومن هنا، تفهم أيها الإنسان، أنّ الجملة تجريدٌ للنص، وأنّ الكلمة تجريد للجملة، وأنّ الحرف تجريد للكلمة، وأنّ النون تجريد للحرف، وأنّ النقطة تجريدٌ للنون؛ فما لكم وما تسطُرون !!
وإذا أردت أن تأخذ بعض أشكال التجريد، فانظر إلى علم العروض؛ ألستَ تراه يستحيل إلى كتابة عروضية، ثم يُجرَّد إلى رموز في شكل حرَكات وسَكنات؛ وهل الوجود إلا حركة وسكون؟ ولكَ أن تنظر إلى ذاك الميثاق الغليظ (الزواج): ألم ترَهُ يبلُغُ ذروة العلاقة إلا بالتجرّد من الكبر والحقد إلى التذلل والحبّ حتى يبلغ مبلغ الوِصال الروحي والجسَدِّيِّ؟ ولك أن تنظر إلى تذلّل الابن لآبائه امتثالا لقول المولى: “واخفض لهُما جناحَ الذُّلّ من الرَّحمة” أفلستَ ترى التجرّد عن مطالب النفس ومُراوغات العقل في سبيل رضى الوالدين؟
ثمّ لتنظُر إلى لُبّ العبادة وحقيقتها وجَوْهَرِهَا… أفلستَ ترى أعلى مقام لها يا أخي الحبيب؟ إنه مقام الشّكر والشعور بالاِمتنان العارم وهو يغزو جوارحك، حتى يكاد يخرجك من طور عبادة الله لأجل الجنة والنجاة من النار إلى طور عبادة الله لأنه خلَقَك ورزقك وأعانك على ذكره وشُكره وحُسن عبادته…
أم تُراك لم تنتبه إلى سورة الفاتحة التي تقرؤها يوميا: “صِراطَ الذين أنعمتَ عليهم”؟
أم تُراك لم تقرأ: “إنّا هديناهُ السّبيلَ إمَّا شاكرًا وإمَّا كَفُورًا”؟
ثم إنْ فتَح الله عليك، علمت أن لَّيس ذاك المُنتهى، وأنك آخذ في التّجريد، حتى ينقطع بك حبل العقل، وتجفّ منك ذائقة البصيرة، فتبقى مُعلَّقًا في نافذة من نوافذ الكون، يطُوف بك طائف من قول مولانا:
“أمّن يُجيبُ المُضطرّ إذا دعاهُ ويَكشِفُ السوء ويجعلكم خلفاء الأرض، أإله مع الله”؟
فإن وُفّقت، اختصرتَ الطريق على نفسك، ولجأت إلى التجريد الأعلى؛ فتجرد الله مما سواه، رُبوبية وألوهية، دون أن يكون تجريدَ مَلموس عن محْسُوس، أو معنى عن مبنًى، بل تلجأ إلى مُطلق التَّسليم: “ليس كمثله شيءٌ وهو السَّميعُ البصير”، وتعلمَ أن “لا إله إلا الله” وتستغفرَ مولاك، الذي يعلم مُتقلّبك ومثواك !